
ترك برس
تناول تقرير للكاتب والخبير التركي عبد الله مراد أوغلو، تحليلًا لاستراتيجية "الفخ" التي قد تكون قد تم استخدامها في سياق الحرب الأوكرانية ضد روسيا.
وناقش الكاتب في مقاله بصحيفة يني شفق كيفية تصميم هذه الاستراتيجية لإغراق روسيا في صراع مكلف ومشتت، مما يستهلك مواردها ويضعف قدرتها العسكرية.
كما استعرض دور الاستراتيجيين الأمريكيين، مثل زبغنيو بريجنسكي، في تشكيل هذه السياسات، خاصة فيما يتعلق بأهمية أوكرانيا كهدف جيوسياسي في الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة، فضلا عن التغيرات في الاستراتيجية الأمريكية تجاه روسيا مع ظهور التهديد الصيني.
ولفت إلى أن الحروب يمكن أن تُثري أطرافًا أخرى، مثل شركات السلاح الأمريكية، وتساءل عما إذا كانت الحرب الأوكرانية بمثابة اختبار لقدرات روسيا قبل الانتقال إلى سيناريوهات أكبر في السياسة العالمية.
وفيما يلي نص المقال:
هناك استراتيجيات ذات طابع سام، وهدفها الأساسي هو أن تتبنى الدولة المستهدفة استراتيجيات صاغها استراتيجيون من دولة معادية. إنها أشبه بـ"استراتيجية داخل استراتيجية"، أو "استراتيجية خفية ضمن استراتيجية". تعمل هذه الاستراتيجيات على دفع الدولة المعادية إلى وهم "الواقع الجيوسياسي"، مما يؤدي إلى حصرها في زاوية معينة. إنها "استراتيجية فخ"، تهدف إلى دفع الدولة المستهدفة لابتلاع الطُّعم، وعندها تصبح محاصرة في مسار خاطئ، يستهلك العدو مواردها ويشتتها. هذا النوع من الفخاخ يكون مكلفًا جدًا للدولة المستهدفة، خصوصًا عند صياغتها لاستراتيجياتها العسكرية المضادة.
عندما يسلط الاستراتيجيون المعادون الضوء باستمرار على أهمية مجال جانبي معين، فإن ذلك يخلق حالة من التركيز لدى الدولة المستهدفة، مما يجعلها تبتلع الطُّعم دون أن تدرك. والخطوات التالية تهدف إلى جعل الطُّعم أكثر إغراءً، وبالتالي تمهيد الطريق نحو الحرب خطوةً بخطوة. وفي النهاية، يتحقق الهدف المنشود. وهنا يبرز تساؤل: هل يمكن اعتبار "أوكرانيا" جزءًا من "استراتيجية فخ" صُمّمت خصيصًا للإيقاع بروسيا؟ لا يعني هذا أن أوكرانيا غير مهمة بالنسبة لروسيا، بل يشير إلى أن أهميتها قد لا تكون بالحجم الذي يتم الترويج له.
الشخص الذي ادّعى أن أوكرانيا تمثل أهمية حيوية لروسيا هو الاستراتيجي الأمريكي زبغنيو بريجنسكي، الذي كان مستشار الأمن القومي خلال رئاسة جيمي كارتر. وُلد بريجنسكي عام 1928 في بولندا، وكان والده دبلوماسيًا بولنديًا، فيما تعود أصول عائلته إلى بلدة "بريزاني" في غرب أوكرانيا. شهد بريجنسكي وعائلته تقسيم بولندا – التي كانت تشمل جزءًا من غرب أوكرانيا – بين "ألمانيا النازية" و"الاتحاد السوفيتي" عام 1939، مما جعله يكبر وهو يحمل مشاعر عداء تجاه الروس.
عندما كان بريجنسكي مستشارًا للأمن القومي، لعب دورًا رئيسيًا في استدراج الاتحاد السوفيتي إلى غزو أفغانستان عبر سلسلة من التحركات السرية. وقد نجحت خطته، ودخلت القوات السوفيتية كابول، ليُعرف ذلك لاحقًا باسم "فخ أفغانستان"، وهو ما أدى إلى غرق روسيا في مستنقع استمر لعقد من الزمن، وأسهمت تكلفته العسكرية والاقتصادية في انهيار الاتحاد السوفيتي.
في كتابه الشهير "رقعة الشطرنج الكبرى", الذي نُشر عام 1997، أكد بريجنسكي أن أوكرانيا تمثل الهدف الجيوسياسي الأكثر أهمية لروسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي، إذ لا يمكن لموسكو أن تحقق نفوذًا في أوروبا دون السيطرة على أوكرانيا. أما بالنسبة للولايات المتحدة، فكانت المشكلة الاستراتيجية الرئيسية تكمن في كيفية ضمان تفوقها في أوراسيا، التي تُعد القلب الجغرافي للعالم. ومن يسيطر على أوراسيا، يضمن تفوقه في السياسة العالمية. المثير للاهتمام أن الروس تبنّوا آراء بريجنسكي حول أوكرانيا كما لو أنه استراتيجي روسي وليس أمريكيًا!
كما كان بريجنسكي من الداعمين لتوسيع "حلف الناتو" ليصل إلى الحدود الغربية لروسيا، معتقدًا أن ذلك سيحرم موسكو من القدرة على السيطرة على أوراسيا. بعبارة أخرى، اعتُبرت أوكرانيا حجرًا لا يمكن السماح بسقوطه في يد روسيا ضمن "الاستراتيجية الكبرى" للولايات المتحدة. أما الأوروبيون، الذين تركوا أمنهم في عهدة واشنطن، فقد تبعوا هذه الاستراتيجية بحماسة، غير مدركين مدى خطورتها. وبما أنهم اعتادوا على أن تفكر أمريكا وتتصرف نيابة عنهم، فقد تصرفوا بكسل استراتيجي، دون حتى محاولة تحليل تداعيات تلك الاستراتيجية.
لكن المثير في الأمر أن بريجنسكي، بعد حوالي 15 عامًا من نشر كتابه، غيّر رأيه بشأن روسيا نتيجة لتنامي "التهديد الصيني". لم يعد يرى موسكو كأولوية قصوى، بل اعتبر أن الصين باتت التهديد الأكبر للولايات المتحدة، مما دفعه إلى المطالبة بدمج روسيا ضمن المؤسسات الغربية. غير أن الوقت كان قد فات، فقد توسع الناتو بالفعل حتى وصل إلى الحدود الروسية، باستثناء أوكرانيا. وهذا يوضح أن الاستراتيجيات ليست دائمة، بل تتغير مع الزمن وفقًا للمتغيرات الدولية.
بينما تدمر الحروب الدول، فإنها تُثري آخرين. على سبيل المثال مليارات الدولارات التي تدفقت إلى شركات السلاح الأمريكية بسبب الحرب في أوكرانيا!
بالنسبة للاستراتيجيين الأمريكيين، فإن الحرب الأوكرانية تُعتبر أيضًا مختبرًا عسكريًا، يتم فيه اختبار القدرات القتالية الروسية. ولهذا، يمكن اعتبار "حرب أوكرانيا وروسيا" بمثابة "لعبة حرب" تُستخدم لتحليل إمكانيات الجيش الروسي وقدرته على التحمل. إنها لعبة مكلفة للغاية، لكنها تمنح الولايات المتحدة فرصة لا تقدر بثمن لاختبار خصمها دون الحاجة إلى التضحية بجنودها.
تُظهر مثل هذه "الألعاب الحربية" نقاط الضعف والقوة لدى الخصم. وهنا يبرز سؤال آخر: هل تغيرت استراتيجية الولايات المتحدة تجاه روسيا لأن التجربة أثبتت كفايتها؟ هل كان الغرض من هذه الحرب مجرد اختبار للقدرات الروسية قبل الانتقال إلى سيناريو جديد؟
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!