
ترك برس
تناول تقرير للكاتب والخبير التركي نيدرت إيرسانال، تحليلاً لخريطة التحركات السياسية والاستراتيجية التي ترسمها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب للشرق الأوسط.
كما يعرض التقرير رؤية "السيد باراك"، السفير الأمريكي والممثل الخاص لسوريا، لمستقبل المنطقة في ظل مشروع إقليمي واسع تسعى واشنطن لتنفيذه خلال فترة قصيرة.
يسلط الكاتب الضوء على الدور المحوري المتوقع لتركيا، إلى جانب محاولات دمج قوى إقليمية مختلفة ضمن اتفاقيات إبراهيم، مع التوقف عند مواقف متباينة من باكستان والهند وفلسطين.
ويركز إيرسانال في تقريره بصحيفة يني شفق، على كيفية استغلال أنقرة لهذه المتغيرات لتحقيق مكاسب استراتيجية، وسط مخاوف تاريخية من النوايا الأمريكية والبريطانية. وفيما يلي نص المقال:
يبدو أن الجميع قد سئم من قراءة وكتابة تلك العناوين الثقيلة المملة، فلتكن هذه المرة الأخيرة، ومن الآن فصاعدًا لنُطلق عليه "السيد باراك".
رسم السفير الأمريكي والممثل الخاص لسوريا، توم باراك، يوم الخميس، خارطة طريق قائلًا: "يسعى الرئيس ترامب إلى فضّ حالة الفوضى الناجمة عن تعدد الخطط وتشابكها بين دول المنطقة، ويحاول المضي قدمًا قائلًا 'يمكنكم العيش في رخاء'. تخيلوا لو أن اتفاقيات إبراهيم جمعت بين تركيا - وهي لاعب قوي تزداد أهميتها في المنطقة يومًا بعد يوم – وبين باقي الأطراف. ولكن لا تقتصر المسألة على تركيا فقط، فباعتبارها دولة ذات غالبية مسلمة وغير عربية، يمكن أن تكون صلة وصل مع كلّ من إسرائيل، ودول الخليج، وسوريا، ولبنان، والعراق، والأردن، ثم التوجه شمالًا نحو أذربيجان وأرمينيا... عندما تتوحد هذه الدول، ستصبح أقوى منطقة في العالم. فلماذا لا يحدث ذلك؟"
وحين كنا نحاول الكتابة عن خريطة أمريكا الذهنية ومخططاتها، كنا ننطلق دومًا في قراءتنا وتحليلاتنا من هذه الخارطة تحديدًا، واتبعناها جزءًا جزءًا، ويمكنني القول: "كلّ ما كتبناه حدث كما هو تمامًا، دون نقصان". لقد حرصنا على تسليط الضوء على هذه الخارطة منذ شهور اسمًا اسمًا، ولم نكتفِ بذلك، بل سعينا إلى دفع الإعلام والأوساط الأكاديمية في بلادنا – رغم انشغالهم غالبًا بالتفاصيل السطحية – إلى التركيز على هذه الرؤية. ولحسن الحظ أنتم شهود على ذلك.
غير أن السيد باراك أغفل دولة واحدة فقط: باكستان. يبدو أنه نسيها، لكن "رئيسه" لم يغفل عنها، بل أضافها بنفسه في اليوم ذاته.
فقد صرّح قائلاً: "لقد وقعنا اتفاقية مع باكستان، وبموجب هذه الاتفاقية، ستعمل الولايات المتحدة مع باكستان على تطوير احتياطياتها النفطية الهائلة. ومن يدري، ربما تبيع باكستان نفطها للهند في يوم من الأيام".
رائع، هذا بالضبط ما كنّا نتحدث عنه. نعلم أن العلاقات بين واشنطن وإسلام آباد شهدت تقاربًا جديدًا في عهد ترامب، وكان الدليل الملموس على ذلك منح البيت الأبيض الضوء الأخضر لإسلام آباد خلال النزاع الأخير مع الهند. ولكن الاتفاقية التي يتحدث عنها ترامب تستهدف في الحقيقة روسيا. فالولايات المتحدة غير راضية عن حجم التبادل التجاري في مجالي الطاقة والسلاح بين نيودلهي وموسكو، بل وصل بها الأمر إلى حدّ القول إن "اقتصادين منهكين كالهند وروسيا قد يتسببان بإغراق بعضهما اقتصاديًا، ولا يهمني ذلك." كما أنها قلقة من أي تقارب هندي صيني، ولهذا فرضت مؤخرًا تعريفة جمركية جديدة على الهند. وهكذا، يتم إدراج باكستان في خريطة باراك من قبل الرئيس الأمريكي نفسه.
لقد كتبنا عن هذا مرارًا وتكرارًا، وذكرنا الدول المعنية، وتناولنا الأمر بحسب الأحواض الجغرافية، ثم جمعناها معًا، وشرحنا سبب جمعها معا. وعندما أبحرنا عبر الأحواض البحرية، أدرجنا البحر الأسود، أي أوكرانيا وروسيا، ضمن الخارطة، ولكن ليس باعتبارهما هدفًا مشتركًا.
ترغب الولايات المتحدة، في نهاية المطاف، بأن تكون تركيا أيضًا شريكًا في اتفاقيات إبراهيم. وقد قلناها بصراحة، وقرأتموها هنا مجددًا في مقالنا بـ 2 يوليو: "دعوة صريحة للسلام مع إسرائيل".
بالطبع، المنطقة بحاجة إلى أن تستقر. وبالنسبة للولايات المتحدة، فإن الشرط الأساسي لهذا الاستقرار هو حل مسألة فلسطين وغزة، ووقف الحرب. ولتحقيق ذلك، يجب القضاء على حماس. وسيُفسح المجال لقيام دولة فلسطينية، ولكنها لن تكون فلسطين التي نعرفها.
لماذا تُنشر أسماء 18,500 طفل فلسطيني قُتلوا؟
ترامب غاضب بشدّة من إعلان 15 دولة دفعة واحدة عن نيتها الاعتراف بدولة فلسطين في سبتمبر. المسألة بالغة التعقيد، وتختلط فيها دموع التماسيح. إنه يهاجم كندا، لكن من يضربه فعليًا هو بريطانيا، فهي تضغط عليه من خلال ورقة الهند. أما لندن وباريس فلا يُوجه لهما شيء.
هل إدارة ترامب مستاءة من تزايد الضغط العالمي على إسرائيل أم لا؟
إذا كانت أولى ضرورات "الخريطة الجديدة" هي إنهاء أزمة غزة، فلا شك أن واشنطن راضية. فصحيفة واشنطن بوست، المقربة من الحزب الجمهوري، تنشر أسماء 18,500 طفل فلسطيني قتلتهم إسرائيل واحدا تلو الآخر، ومن بينهم أكثر من 900 رضيع لم يبلغوا عامهم الأول. وفي مجلس الشيوخ، يحظى مشروع قانون حظر بيع الأسلحة لإسرائيل بعدد قياسي من الأصوات بما فيهم الديمقراطيين. ربما لم يتحقق الهدف فعليًا، لكن الرياح بدأت تهب. وبحسب صحيفة فاينانشال تايمز، قال ترامب لأحد أبرز ممولي الحملات اليهودية: "شعبي بدأ يكره إسرائيل". فهل هذه مجرد صدفة؟! لكن الصورة التي يظهرها كل من الرئيس والسيد باراك للعلن ليست كذلك.
الولايات المتحدة: تركيا يجب أن تكون جزءًا من نسيجنا الإقليمي
صرح السيد باراك بأن "تركيا يجب أن تكون جزءًا من نسيجنا الإقليمي". ولا داعي للقلق حيال هذا التصريح؛ فقد كانت تركيا كذلك منذ عام 1945، أو ربما 1950 على أبعد تقدير، باستثناء الأعوام الخمسة عشر الأخيرة، بل لِنَقُل العشرة الأخيرة على وجه التحديد" فلم نعد جزءًا من أحد. وتعتبر الولايات المتحدة تركيا المقر المركزي للخريطة المذكورة أعلاه، وهذا طبيعي لأنه لا يوجد لاعب آخر في المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، تحتاج كل من الولايات المتحدة وتركيا إلى رفع موقعهما في هذه الجغرافيا، وهذا ما يفعلانه.
ستستقر الأوضاع في سوريا أيضًا، وسيتم دمج وحدات "قسد" مع حكومة دمشق. فهل سيتم ذلك وفق الرؤية التركية؟ هذا ما سيبقى محل جدل واسع. لكن في نهاية المطاف سيقولون: "لقد تحقق بقدر المستطاع، والمهم أن الإرهاب انتهى في النهاية". وربما تلي هذه التطورات تسهيلات أمريكية في ملفات طائرات F16 و F35، وقد ترفع العقوبات بشكل تدريجي، فضلًا عن تحسن التصنيف الائتماني التركي لدى وكالات التصنيف العالمية، وسيفرض ترامب ضرائب، ولكنها ستكون "في أدنى المستويات".
الضوضاء..
المنطقة تعجّ بالكثير من "الضوضاء"، أي الأصوات غير المرغوب فيها. وتُفهم هذه العبارة على نحو: "سدوا آذانكم وركزوا على أعمالكم." هذا ما يقوله السيد باراك بوضوح.
والخريطة التي ترسمها إدارة ترامب هي سباق مع الزمن؛ فهم يسعون إلى استكمال هذا المشروع خلال فترة ولايتهم. أما أنقرة، فتعمل على الاستفادة القصوى من هذه العملية، بما يشمل حسم معركة الإرهاب، وترسيخ موقع إقليمي فاعل في الشرق الأوسط، وتجاوز التحديات الاقتصادية، وتطوير العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، والتقدم في قطاعات الطاقة وسلاسل التوريد، وتعظيم المكاسب الاستراتيجية، وتعزيز القدرات العسكرية، بل وحتى تحسين البنية السياسية الداخلية.
رغم أن هذه المكاسب لا يمكن التغاضي عنها أو الاستهانة بها، فإن القلق لا يزال حاضرًا. ذلك أن التجربة التاريخية الطويلة لتركيا مع الولايات المتحدة وبريطانيا، تبعث إشارات تحذيرية حمراء إلى أذهاننا.
فهل بلغت حركة الاستقلال التركية مستوى النضج الكافي لاستخلاص المصالح من داخل هذا المشروع العملاق ورفض ما يُلحق بها الضرر؟ إن تحقق ذلك، فإنّنا أمام بداية مرحلة جديدة: "تركيا خالية من الإرهاب" وبداية فعلية لـ"قرن تركيا". وتصريحات أنقرة المطمئنة تعد بذلك.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!