
ياسين أقطاي - يني شفق
قبل أن تتحول المدينة إلى كيان حضري صاخب، وتغزوها ضوضاء التكنولوجيا وتكبّرها المتعجرف، ويُثقلها زحام الحياة وضجيجها، كان الأطفال الذين يقفون على عتبة الشباب، يندفعون ويحتشدون معًا لإنجاز مهمة تخصّ الحي بأكمله، في مشهد يبعث الحياة في الأجواء، ليصبح الحدث الأبرز في كل ركن من أركان المدينة.
كان صبيان الحي يسيرون في جماعاتٍ صاخبة، يتقدمهم اثنان يحملان عصًا خشبية طويلة، يعترضان طريق المارة من الكبار، طالبين منهم التبرّع ببعض المال لشراء الحطب اللازم لإشعال نار كبيرة تُضاء عشية رمضان. وعلى الرغم من أن ذلك بدا وكأنه "اعتراض طريق"، فإنه لم يكن يحمل طابع الإكراه أو الإلزام. بل على العكس، كان المارة أنفسهم يتفاعلون مع هذا التقليد وكأنه جزءٌ من لعبة اجتماعية، فلم يكن أحد مُجبرا على التبرّع. ولكن من يرفض المساهمة يُخاطر بأن يصبح موضع تندّر الأطفال، الذين يلاحقونه هاتفين: "ليس في جيبه حتى مركاه" في إشارة إلى البخل. والجدير بالذكر أن كلمة "مركاه"، المستخدمة في لهجة أهل "سِيرت"، تعود إلى المصطلح العثماني "مَنْغِر"، وهي أصغر وحدة نقدية نحاسية آنذاك، لكنها فقدت معناها الأصلي بمرور الزمن، وأصبحت تُردَّد دون معرفة بمصدرها التاريخي. لم يكن هناك إكراه ديني، ولا إلزام بالتبرّع لشراء الحطب، ولكن الامتناع عنه كان يعني التعرض لوصمة البخل، ولو على سبيل الدعابة.
كان هتاف الأطفال وطلبهم المال بصوت واحد هو الإعلان الأول عن قدوم شهر رمضان. فلم يكن حلول الشهر الفضيل يمر بهدوء وسط انشغالات الحياة، بل كان قدومه مسموعا ومشهودا قبل أسابيع. كانت أصداؤه تتردد في الأحياء، وكانت المدينة بأسرها تستعد لقدومه قبل وقت طويل بكل تفاصيله. كان الشباب يبدؤون تنظيم هذه الفعاليات، قبل 15 أو 20 يومًا من حلوله، فتتحوّل المدينة بأكملها إلى ساحة ترقب وانتظار لحدث جلل طال انتظاره. ففي جميع أحياء المدينة، كانت الاستعدادات تجرى لإشعال نار رمضان قبل 15 أو 20 يومًا، ممّا يجعل ليلة استقباله حدثًا يُنتظَر بشغف، ويُحتفَل به على نطاق واسع، وكأنه مهرجانٌ.
كانت النار توقد عند المغرب في أول ليلة من رمضان، إيذانا ببدئه وكانت تلك النار بمثابة طقوس كبرى واحتفال، وإعلان دخول رمضان. كان شباب الحي يعملون على مدار 15 إلى 20 يومًا لجمع الحطب والأغصان من أجل إشعال النار. وبمجرد أن يحين الوقت، يتم إشعال النار، ولا يأتي رمضان بشكل هادئ ، بل كان يأتي مُعلَنًا ومزدانًا بالاحتفالات والألعاب التي يحرص الأطفال على تحضيرها بعناية، بمشاركة جادة من كبار السن. وعندما تحل تلك الليلة، ورغم أن تنظيم هذه الفعالية في يد الشباب، إلا أن الحدث كان يصل إلى ذروته عندما يتجمع جميع سكان الحي حول برج من الحطب والأغصان المكدسة بعناية، ليشاهدوا كيف ترتفع النيران إلى أعلى نقطة بحماس بالغ. كان طول ألسنة النار مدعاة للفخر والاعتزاز بين الأحياء، ولكنها لم تكن موضوعًا للمنافسة الشديدة؛ حيث كانت معظم المنازل في ذلك الوقت مكونة من طابق أو طابقين فقط، ولم تكن هناك أبنية مرتفعة بما يكفي لتحجب رؤية النيران عن الأحياء الأخرى، فكان الجيران يتمكنون من رؤية النار من أسطح منازلهم. وعندما تهدأ النيران وتصل إلى مستوى معين، ينتقل الشباب إلى مرحلة أخرى: لعبة القفز فوق النار. كانت هذه اللعبة تتطلب شجاعة، وبالتالي كانت فرصة لمن يرغبون في إظهار شجاعتهم. وكان القفز فوق النار أسهل عندما تنطفئ تدريجيًا، ولكن اللحظات الأكثر إثارة كانت عندما تكون النيران في أوج اشتعالها وألسنتها متقدة. كانت هذه اللحظات مثيرة للغاية، فهل كانت تقع بعض الحوادث؟ ربما، ولكني لا أذكر أي حادثة جديرة بالذكر في هذا الحدث الذي شهدته لسنوات عديدة. وعندما تنطفئ النار تماما قبيل صلاة العشاء، يذهب الناس إلى المسجد لأداء أول صلاة تراويح.
وبذلك، كان يتمّ استقبال شهر رمضان وإعلان دخوله عبر احتفال مهيب، وكأنه دخول إلى زمن جديد، ومناخ جديد، وعالم جديد. لا أعرف إن كانت هناك أماكن أخرى في تركيا يتم فيها إشعال النار بهذه الطريقة لاستقبال رمضان. ولكن لماذا كان هذا التقليد متبعًا في سِعِرت؟ ومن أين أتى؟ ولماذا كانت النار تُستخدم لاستقبال رمضان؟ إنها بلا شك أسئلة تستحق البحث والتأمل. فالإسلام في مختلف بقاع العالم يتخذ أشكالًا تتأثر بالتراث الشعبي والثقافة المحلية، وهو أمر طبيعي.
فما العلاقة بين النار ورمضان؟ في الحقيقة، ليس لديّ إجابة قاطعة حول هذا الأمر.
وعن مصدر هذه التقاليد يقول الصحفي من سيرت، أيهان مرجان، إن الدخان الناتج عن النار كان يُستخدم كوسيلة لإبلاغ القرى المجاورة بدخول رمضان. ولكن بالنظر إلى الاستعدادات التي كانت تبدأ قبل أيام من دخول رمضان، والبدء ببناء برج النار منذ ظهر ذلك يوم والتخطيط له مسبقا، فإن هذا التفسير لا يكفي وحده، ويستلزم تفسيرات أخرى. قد تكون هذه العادة شهدت تطورًا مع مرور الوقت. وربما في الماضي كان التحضير لهذه النار يجري في وقت سابق، ولكن إشعال النار كان يُتخذ وفقًا لرؤية الهلال، وقد يتم تأجيله إلى اليوم التالي إذا لم يتم رؤية الهلال، وهذا احتمال وارد. وحتى ستينيات القرن الماضي، كان رمضان في سيِّرت يُحدَّد وفقًا لرؤية الهلال وليس وفقًا للتقويم، وكان يتم تحديد ذلك من قِبَل كبار علماء سيرت، ثم يُعلن بعد ذلك للجميع. وفي هذه الحالة، فإن هذا التقليد يتجاوز كونه احتفالًا شبابيًا يتضمن بعض الطقوس، بل كان أيضًا يحمل وظيفة إعلامية.
ولو استمرت هذه العادة حتى اليوم، لأشعلت النار هذا المساء ليُعلن عن الفرق بين رمضان وغير رمضان، ولترسم الحدود الرمزية بين الفترتين بالنار، ولجعل دخول رمضان أمرا محسوساً بحرارة النار وسطوعها. وفي الختام نهنئكم بقدوم شهررمضان، وسنكمل غدا إن شاء الله حديثنا عن هذا التقليد.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس