
ياسين أقطاي - يني شفق
كانت أنباء اقتراب شهر رمضان تنتشر في المدينة منذ وقت مبكر من خلال التحضيرات التي كانت تتم مسبقا لإشعال النار عند دخول رمضان، ولكن بداية الشهر المبارك كانت تتجسد فعليًا بصلاة التراويح، التي تُقام عندما تبدأ النيران بالخمود. كانت صلاة التراويح بالنسبة لنا في سن الطفولة تعني اللعب والمرح. لا أعلم إن كان الحال كذلك في جميع المساجد، فلم أكن أستطيع المتابعة حينها ابلطبع، ولكن كان مسجد الشيخ معروف، الذي يقع بالقرب من منزلنا، بمثابة ساحة لعب بالنسبة لنا.
كان إمام المسجد، الشيخ صبري، في الستين من عمره حينها، وكان يبدو لنا كجدّ وقور بلحيته البيضاء، ولكن ما أدركته لاحقًا هو مدى فهمه لروح الطفولة والأطفال. لقد كان يتمتع بصبر نادر ورقة في التعامل وحكمة تُشبه تلك التي يتحلى بها بستاني يرعى أزهاره بعناية. لم يكن مجرد إمام يؤدي واجبه، بل كان رجلًا صالحًا يحب عمله ويؤديه بإخلاص. كان يحب صلاته، ووضوءه، وتلاوة القرآن، وينقل هذا الحب إلينا دون تعب أو ضجر أو تعجل.
لقد بذل ذلك الشيخ الرحيم، ذو المظهر الودود والحكمة العميقة، جهدًا كبيرًا لجذب الأطفال إلى المسجد وجعلهم يحبونه، فكان يُعلّمهم الصلاة وكأنه يعلمهم لعبة، ويصحّح أخطاءهم بابتسامة، ويوجههم برفق. وعندما يحين وقت الصلاة، كانوا يصلون بخشوعٍ تحت إشرافه الحازم برفق، لكنهم بعد الصلاة كانوا يستكشفون كل زوايا المسجد ويلعبون بحرية. وهو مَن اكتشف موهبتي الصوتية وأسند إليَّ مهمة رفع الأذان، لم يكن المسجد كبيرًا، ولم يكن فيه مكبرات صوت، فكنت أرفع صوتي الطفولي الرقيق بالأذان بكل ما أوتيت من قوة. ولا يمكنني أن أصف شعور الفخر الذي كنت أعيشه آنذاك. وعندما كنت أتجول في الحي ويخبرني بعض أهالي الحي بأنهم يسمعون الأذان بصوتي، كان ذلك يمنحني شعورًا لا يُضاهى بالسعادة. أعتقد أنها المرة الأولى التي شعرت فيها أن والدي فخورٌ بي أمام الآخرين.
في تلك السنوات، كان شهر رمضان يتزامن مع أشهر الصيف، لذا كانت صلاة العشاء والتراويح تقام على سطح المسجد في حرارة صيف "سيرت" الخانقة. كان الشيخ صبري يوزع على المصلين القلائل، والذين كان معظمهم من الأطفال، وجبة إفطار تتكون من قطعتي بسكويت بينهما قطعة راحة الحلقوم، والتي كان يتبرع بها أهل الخير. ربما كانت هذه أجمل مكافأة لحضور صلاة المغرب. لا أذكر إن كنت أصوم حينها، إذ كنت في السابعة أو الثامنة من عمري، لكنني أذكر جيدًا أننا لم نكن نفوّت ذلك الإفطار. ومن المحتمل أن اعتيادنا عليه كان يدفعنا تدريجيًا إلى الصيام. أما التراويح، فقد كانت لها نكهة خاصة تحت سماء تتلألأ بالنجوم، على ذلك السطح الإسمنتي الذي يبرد تدريجيًا مع اقتراب صلاة العشاء، رغم أن صلاتها كانت تتخللها ضحكات الأطفال وشغبهم الذي يصل أحيانًا إلى حد إفساد أجواء الصلاة.
في سيرت، كان الصيام في أيام الصيف الحارقة عبادةً تتطلب إرادةً وعزيمة قوية، ولعل أجرها يفوق أجر الصوم في أي مكان آخر. فطول النهار، وحرارة الشمس اللاهبة، يجعلان من الصيام اختبارًا للإرادة. لقد صمت رمضان في أماكن عديدة، بما فيها مكة والمدينة، لكنني لم أشعر قط بصعوبة مماثلة. لا شك أن الصيام في الصيف صعب في أي مكان، لكن في تلك المدن، وبفضل أجهزة التكييف المنتشرة الآن، يمكن للمرء أن يؤدي هذه العبادة دون أن يشعر بتلك المشقة.
منذ الساعات الأولى من الصباح، كانت الشمس تفرض سطوتها على المدينة، ناشرةً لهيبها الحارق، فلا يكاد يمر جزء من النهار دون أن يشعر المرء بثقل حرارتها. وكانت المباني القديمة، التي تقل فيها حرارة الإسمنت، أشبه بواحاتٍ في صحراءٍ ملتهبة، يلجأ إليها الناس بحثًا عن نسمة من الهواء المنعش. فهذه البيوت المبنية من الحجر كانت تتميز ببرودتها صيفًا ودفئها شتاءً، على عكس المنازل الإسمنتية التي تمتص الحرارة. أما المساجد وخاصة تلك التي تدور فيها مراوح سقفية، فكانت تتحول إلى ملاذ حقيقي لمنهكي الحر بحثاً عن نسمة باردة. كانت المساجد القديمة مثل "الجامع الكبير" و"جامع السوق"، وجامع "باب الضرب"، وجامع "فخر"، تمتلئ بالناس بعد الظهر، حيث يتوافدون إليها للاستماع إلى تلاوة القرآن في رمضان، ثم يستلقون على الأرض تحت المراوح السقفية، ويحاولون أن يلتقطوا أنفاسهم ويستمتعوا ببعض البرودة. ويصبح المشهد في تلك اللحظات مثيرا للاهتمام للغاية؛ أجساد ممددة في كل زاوية من المسجد، وكأنها قوافل أنهكها السفر، فتوقفت عند إحدى المحطات في انتظار أن تواصل رحلتها الطويلة.
ومع تقدم الوقت، كانت مشقة الصيام تزداد. فيجف اللسان والشفتان، ويخبو بريق العينين، ويغدو الجسد واهنًا منهكًا. كان بعض الناس يتجمعون حول برك الماء في المساجد، وكانت منتشرة في كثير من الجوامع القديمة، بمياهها التي تبقى باردة صيفًا ودافئة شتاءً، مما يتيح للناس الانغماس بها بكامل ملابسهم للوضوء. كان الاغتسال في تلك الأحواض الباردة، أشبه بإلقاء قطعة حديد محمّاة في ماء مثلج، حيث كان الشعور بالانتعاش آنذاك يشبه الصدمة الجسدية المباغتة. ثم يخرجون بثيابهم المبللة، ويجلسون على حواف البركة، منتظرين مرور الوقت. كان هذا المشهد جزءًا من روتين صيام شهري يوليو وأغسطس في سيرت. في ذلك الوقت، كان الصيام بمثابة عمل شاقّ لا يترك مجالًا لأي جهد آخر. وكان الجميع يصومون كبارا وصغارا، رجالا ونساء، حيث كانت المدينة بأكملها تصوم. وكنا نحن الأطفال نواصل اللعب تحت أشعة الشمس الملتهبة، نركض ونلعب كرة القدم حتى في ساعات الظهيرة الحارقة دون أن نعير اهتمامًا لساعات الصيام أو لشدة الحر، فكان العرق يتبخر من أجسامنا بالكامل.
ومع حلول العصر، نبدأ بالشعور بالتعب والإرهاق، وكأننا بقينا أيامًا في الصحراء دون ماء، وننتظر بفارغ الصبر لحظة أذان المغرب. ولم يكن الجميع يمتلكون ساعات آنذاك، لذا كنا نسأل المارة عن الوقت لمتابعة الوقت. ومع اقتراب موعد الإفطار، كان الوقت يتباطأ بشكل غريب، وكأن الثواني تتحول إلى ساعات. كنا نجلس حول المائدة، مستعدين للانقضاض على الماء المثلج الذي تم شراؤه من السوق مسبقًا، لكننا كنا ننتظر. أيدينا على كؤوس الماء، وآذاننا تنتظر سماع صوت الأذان. ما الذي كان يمنعنا في تلك اللحظة؟ وأي قوة كانت تحكمنا؟ هذا هو الصوم بكل معانيه. حدث عظيم يعكس إرادة حقيقية رغم كل صعوباته. لم نكن نشعر بجوع، بل بعطش شديد، الماء أمامنا ولكننا لا نمدّ أيدينا إليه إلا حينما ينادي المؤذن: الله أكبر.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس