د. طالب عبد الجبار الدغيم - خاص ترك برس

يحلّ شهر رمضان هذا العام على سورية بنسائم جديدة، محمَّلة بروح الحرية والانتصار، بعد سقوط نظام الأسد وتلاشي حلفائه من المشهد، مما يعني نهاية عصر الاستبداد والقمع. وعلى مدى السنوات الثلاث عشرة الماضية، كان رمضان في سورية شاهدًا على معاناة مستمرة، حيث تداخل صوت الأذان مع دوي القصف، وأصبحت موائد الإفطار مليئة بالخوف والترقب تحت سماء دامية. وأما اليوم، فتشرق شمس رمضان على سورية بطعم جديد، حيث تلتقي فرحة التحرر بأمل بناء مستقبل أكثر إشراقًا، ويعود فيه السوريون إلى ديارهم، ويعيدون إعمار مدنهم ومساجدهم وأسواقهم، ليعيشوا أجواء الشهر الكريم في ظل وطن يعمه الأمن والسلام.

رمضان في سورية الجديدة: طقوس متجددة وفرحة غامرة

يعيش السوريون هذا العام (1446ه/ 2025م)، رمضانهم الأول بعد سنوات من الحرب والتهجير، ليشاهدوا عودة الطقوس الدينية والاجتماعية إلى جوهرها الأصلي، بعيدًا عن عيون المراقبة الأمنية التي كانت تلاحق كل لحظة. والمساجد التي كانت تعيش في ظل الصمت الرهيب تحت قبضة النظام، أصبحت اليوم تعج بالمصلين الذين يصلون دون خوف من الاعتقال أو التهديد. وتعلو أصوات الأذان في كل زاوية من سورية، من دون أن تُخَفض بحجة "الإزعاج"، والمآذن تتزين بأنوار رمضان التي شعّت لأول مرة دون أن يطفئها الخوف أو الظلام.

وفي الشوارع، تعود مظاهر الفرح الرمضانية التي غابت لفترة طويلة، حيث الفوانيس والزينة التي تزين الطرقات، وتعود الموائد الرمضانية إلى الشوارع بحيوية لم يشهدها السوريون منذ سنوات. والأسواق تشهد حركة نشطة ومزدانة بالأضواء الملونة، رغم الظروف المعيشية الصعبة، حيث يعرض الباعة السلع الرمضانية التي كانت مفقودة بسبب الحصار والمقاطعة الدولية، والمصادرات والغرامات الجائرة التي فرضها عناصر أمن النظام البائد. ويعيش السوريون متعة التسوق بحرية، بعد أن زالت الأتاوات التي كانت تفرضها الحواجز العسكرية وميليشيات النظام، وأصبحوا قادرين على التجول في أسواق المناطق التي كانت تحت سيطرة الثورة دون الخوف من القصف أو الاعتقال.

ورغم الأزمات الاقتصادية التي لا تزال تؤثر على البلاد، فإن فرحة السوريين بشهر رمضان هذا العام تفوق كل الصعاب. والأسر التي كانت مشتتة بين المنافي والمعتقلات بدأت تجد طريق العودة إلى منازلها، ليجتمع أفرادها حول موائد الإفطار دون الخوف من فقدان أحدهم فجأة بسبب غارة جوية أو اعتقال تعسفي.

المساجد في حلّة جديدة: عودة الروح إلى بيوت الله

المساجد التي لطالما كانت تحت رقابة مشددة من أجهزة المخابرات، استعادت المساجد في سورية دورها الحقيقي في احتضان المصلين وأداء الشعائر الدينية بحرية وطمأنينة. وكانت تلك المساجد، التي لطالما خضعت لرقابة مشددة من أجهزة المخابرات، شاهدة على تضحيات السوريين وصمودهم. وتجد اليوم المساجد نفسها في حلة جديدة، حيث تشهد حملات واسعة للتنظيف والترميم استعداداً لاستقبال شهر رمضان الكريم. وفي دمشق وحلب وحمص وحماة وإدلب واللاذقية، يشارك الأهالي في إعادة بناء تلك الأماكن المقدسة التي تضررت خلال سنوات الحرب، ليضعوا بصماتهم في تجديد مساجدهم، وينظفونها ويفرشونها، ويزينونها لاستقبال المصلين في صلاة التراويح ودروس الوعظ الرمضاني.

ومن بين أبرز هذه الأماكن، يبرز المسجد الأموي في دمشق، الذي استعادت مرافقة رونقها من خلال أعمال صيانة واسعة شملت تجديد السجاد الفاخر الذي استُقدِم خصيصًا من مدينة غازي عنتاب التركية. كما شهدت مساجد حلب حملة "بيوت الله منزلنا"، حيث توافد الأهالي لتنظيف وتزيين بيوت الله، لتكون جاهزة لاستقبال رمضان الأول بعد سقوط النظام.

هذه الأجواء الرمضانية التي طالما افتقدها السوريون، تجسد عودة الحرية الدينية، وهي رسالة تعكس روح المجتمع السوري في تمسكه بقيمه واحترامه لهذا الدين الحنيف. بعد سنوات من القمع، أصبحت صلوات التراويح التي كانت تُؤدى تحت الخوف، اليوم رمزًا للتجمع والتآلف والفرحة التي تشمل الجميع دون استثناء، كبيرًا وصغيرًا، بعيدًا عن رقابة الأجهزة الأمنية.

رمضان في مخيمات النزوح واللجوء: معاناة مستمرة رغم الحرية

رغم الفرحة التي تسود المدن السورية، لا تزال معاناة عشرات الآلاف من النازحين في مخيمات الشمال السوري واللاجئين في دول الجوار مستمرة. فمع قدوم رمضان، تجد العائلات النازحة صعوبة شديدة في تأمين احتياجاتها الأساسية، خاصة مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية ونقصها. في مخيمات إدلب وشمال حلب، يزداد الوضع سوءًا مع تراجع حجم المساعدات الإنسانية التي كانت تصل إلى أدنى مستوياتها. ومع تدهور الأوضاع المعيشية، أصبحت وجبة الإفطار تحديًا يوميًا، ويعتمد كثيرون على التبرعات التي بالكاد تكفي لإشباع جوعهم.

وأما في دول اللجوء، مثل تركيا ولبنان والأردن، يواجه السوريون تحديات أخرى، حيث تفاقمت تكاليف المعيشة وقلت فرص العمل، مما جعل رمضان هذا العام أكثر قسوة على الكثيرين. ورغم تحرر سورية، لا يزال العديد من اللاجئين عاجزين عن العودة إلى ديارهم المدمرة، أو إلى المناطق التي ما زالت تحتاج إلى إعادة تأهيل.

رمضان بعد الأسد: بداية جديدة وأمل بمستقبل أفضل

كن رغم كل التحديات والصعاب، يبقى فجر الحرية والنصر السوري ليضفي على رمضان هذا العام نكهة خاصة، مختلفة عن أي رمضان مضى. وهذا رمضان هو الأول في سورية الجديدة، بعد سقوط نظام طالما حرم السوريين من أبسط حقوقهم وأملهم في الحياة. وفي هذا الشهر المبارك، تتجدد الآمال بإعادة إعمار الوطن الجريح، واستعادة الحياة التي فقدها السوريون لعقود طويلة.

ويتطلع السوريون إلى وطن جديد، وطن لا يحكمه القمع ولا الخوف، بل يكون فيه الإنسان حرًا، ويعيش بكرامة وعزة، في وطن تُرفع فيه راية الحق، وتعمّ فيه الطمأنينة والسلام. وبينما يواجهون واقعًا صعبًا، فإنهم يحملون في قلوبهم الأمل في مستقبل أفضل، ومستقبل يبدأ مع هذا الشهر الفضيل، ليكون بداية لمرحلة جديدة من البناء والازدهار.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس