إبراهيم قاراغول - يني شفق

لم تعد إسرائيل تشكّل تهديدًا وجوديًا لتركيا وحدها، بل أصبحت التهديد الأكبر لكافة دول منطقتنا، وليس لفلسطين ولبنان فحسب. تحتل إسرائيل صدارة تقييمات الأمن والتهديد لدى جميع هذه الدول. وهذه باتت الحقيقة المطلقة للمنطقة.

تقوم إسرائيل بدعم التنظيمات الإرهابية والعناصر التهديدية الداخلية والخارجية داخل تركيا ومحيطها بشكل علني. كما تستخدم الأحزاب السياسية وبعض الدوائر الداخلية كأدوات للهجوم من الداخل، وتغذي جيوشًا إرهابية على حدودنا. وتهاجم مناطق النفوذ والشراكات التي طورتها تركيا في منطقتها الجغرافية. وتستخدم كل الإمكانيات المتاحة لها لمهاجمة جميع مجالات الأمن التركي.

حرب تركية ـ إسرائيلية باتت حتمية

في ظل هذا الوضع، تتصادم جميع الحسابات والمصالح الأمنية بين تركيا وإسرائيل. ولم يعد هناك تقريبًا أي مجال خالٍ من هذا الصراع. كما لا يبدو أن هذا الوضع سيتغير في المستقبل المنظور.

فإسرائيل ستواصل تموضعها على أساس الصراع والعدوان. ومن غير الممكن، وفقًا لجيناتها السياسية، أن تبني وجودًا آخر مختلفًا. في المقابل، ستواصل تركيا بناء مجالات شراكة عابرة للأمم على مستوى المنطقة الجغرافية. ومن غير المرجح أن يتغير هذا المسار طوال القرن الحادي والعشرين.

متى ستندلع هذه الحرب؟

بناءً على ما سبق، لم يعد تحول المواجهة القائمة بين إسرائيل وتركيا إلى حرب كبرى مجرد احتمال، بل أصبح واقعًا مؤكدًا. أما الجانب الوحيد المتعلق بالاحتمال فهو توقيت اندلاع هذه الحرب. السؤال المطروح هو: متى ستحدث، وفي أي فترة زمنية ستندلع؟

شخصيًا، لا أعتقد أن ذلك سيحدث "على الفور"، لكن خلال عام إلى ثلاثة أعوام ستشهد منطقتنا هذه الحرب. وستؤدي هذه الحرب إلى انهيار الأطروحات القائمة منذ عام 1948 بشأن الهيمنة الإسرائيلية المدعومة من الغرب. وستدخل إسرائيل مرحلة التراجع، وتُفتح أمامها أبواب الانهيار.

انكسار المسلّمات الإسرائيلية: ما السبب الحقيقي للخوف؟

لقد شكل سقوط النظام في سوريا، وتولي الشعب السوري إدارة البلاد، وتوجه تركيا وسوريا نحو إنشاء مجالات أمنية مشتركة، أكبر صدمة لإسرائيل منذ تأسيسها. وأدى هذا التطور إلى خلق حالة رعب كبيرة، وانهيار المفاهيم التقليدية المعرّفة للتهديد.

انهارت السياسات الأمنية التي كانت قائمة على "الحرب مع الفلسطينيين/العرب". كما انهار الطرح الذي كانت تستخدمه إسرائيل منذ خمسين عامًا لضمان بقائها عبر افتعال صراع دائم مع إيران. فقد كانت كل من إيران وإسرائيل تستمدان القوة من هذا الطرح.

لقد تلاشى نفوذ إيران، وأفرغت مساحة قوتها. وإسرائيل أيضًا ستفقد قوتها، وسيتلاشى مجال نفوذها. كما انهار المفهوم الأمني الذي كانت تحاول الحفاظ عليه مع سوريا طوال فترة حكم نظام البعث. والآن، تواجه إسرائيل واقعًا جديدًا بالكامل، يسبب لها ارتباكًا ذهنيًا عميقًا. ومن هنا ينطلق الخوف الحقيقي.

انهيار القوة الغربية وفقدان إسرائيل لشعور الأمان

لأول مرة منذ عام 1948، تجد إسرائيل نفسها في "وضع حرب مفتوحة" مع تركيا. هذا أمر لم يحدث من قبل، ولم يكن متوقعًا أن يحدث. فقد كانت تركيا تُدار من قبل حكومات يعرّفها حزب الشعب الجمهوري أو القوى الغربية، وتتموضع ضمن النظام الغربي، مما كان يوفر لإسرائيل ضمانة قوية.

لكن في الواقع، انتهت حقبة الحرب الباردة في منطقتنا. ومع تراجع وضعف الغرب، الذي كان الضامن الوحيد لإسرائيل، عادت تركيا لأول مرة منذ الحقبة العثمانية إلى محيطها التاريخي والجغرافي. ولم تعد إسرائيل جزءًا من هذه الخريطة. ولا وجود لها في الخريطة المستقبلية المتوقعة لتركيا.

تركيا عادت إلى "ذاكرتها"... حدث بحجم انهيار الدولة العثمانية

شهدت منطقتنا تطورين ثوريين غاية في الأهمية سيغيران جميع خرائط القوى الجيوسياسية في المنطقة: أولهما عودة الذاكرة التاريخية لتركيا، وثانيهما دخول إسرائيل في حالة من الارتباك الذهني.

إن إسرائيل، التي تُعد نتاج النظام الإقليمي الذي تأسس بعد سقوط الدولة العثمانية، تواجه أزمة وجودية خانقة مع عودة هذه الذاكرة التاريخية إلى العمل. وستواصل هذه الأزمة تصاعدها.

عودة تركيا إلى ذاكرتها التاريخية والجغرافية بعد مئة عام تعصف بجميع الأنظمة التي أنشأها الغرب في منطقتنا عقب سقوط الدولة العثمانية. نحن نشهد حاليًا حدثًا بحجم انهيار الدولة العثمانية. وهذه الهزات التي نواجهها الآن ليست إلا مقدمات لذلك. الزلزال هو تركيا نفسها!

نهاية مخاوف القرن العشرين: حان وقت الطموحات الجريئة

ظلت الأنظمة والمجتمعات في منطقتنا تحت وطأة مخاوف القرن العشرين، واحتفظت بها حيّة في اللاوعي إلى درجة أنها تجد صعوبة في إدراك هذا التحول الكبير. حتى في تركيا، لا تزال هذه الحالة قائمة.

فالقرن العشرون كان قرن الخوف للجميع، قرنًا مُعارًا ومجمدًا. وإذا تم التخلص من هذه المخاوف الراسخة في اللاوعي، سيتضح أن من يجب أن يخشى هم إسرائيل وأدوات القرن العشرين. لذا، نحن بحاجة إلى جمل جريئة وطموحات كبيرة ومواقف حازمة من أجل تفجير هذا الوعي الذاتي وبثّ الثقة بالنفس.

إسرائيل تهاجم تركيا في سوريا.. فلماذا كل هذه "التصريحات المبالغ فيها"؟

إن هجوم إسرائيل على سوريا هو في حقيقته هجوم مباشر على تركيا. فالهدف الأساسي ليس سوريا بحد ذاتها، بل تركيا. وقد اعترف المسؤولون الإسرائيليون بذلك صراحة، مؤكدين أن هجماتهم تهدف إلى منع تموضع تركيا في سوريا.

ومع ذلك، نشهد بشكل غريب سيلًا من التصريحات المبالغ فيها حول هذه المسألة. وبرأيي، هذا التهويل نابع من الخوف.

فالاحتلالات في جنوب غرب سوريا، والغارات الجوية على منطقة البحر الأبيض المتوسط القريبة من الحدود التركية السورية، والهجمات العلنية على المنشآت التي تخطط تركيا لإقامة قواعد عسكرية فيها، كل ذلك يكشف أن إسرائيل تخوض حربًا مفتوحة ضد تركيا.

غير أن هذه الهجمات لا تملك القوة الكافية لإيقاف تركيا. فالغاية منها هي إثارة الضجيج وخلق ضغط دولي غربي على تركيا، ودفع النظام السوري إلى الابتعاد عن التعاون مع أنقرة.

في ظل تفكك القوة الغربية.. من المستحيل أن توقف إسرائيل تركيا

إلا أن تفكك القوة الغربية يجعل تحقيق هذا الهدف أمرًا مستحيلًا. ولن يكون للطرح الإسرائيلي أي صدى. فتركيا لم تعد دولة مفتوحة للضغوط الغربية كما كانت في السابق. وخاصة في مرحلة تطلب فيها أوروبا دعم تركيا من أجل أمنها، يصبح هذا الضغط مستبعدًا تمامًا. علاوة على ذلك، فإن المجازر الجارية في غزة قد أضعفت بشكل كبير، بل ومزقت، الدعم الغربي لإسرائيل.

ومهما فعلت إسرائيل، فإنها لن تستطيع منع تركيا من بناء مجالات أمنية مشتركة على مستوى المنطقة. وستُقام كل قاعدة عسكرية قررتها تركيا داخل سوريا بلا تراجع. وسيُعاد تحديث الجيش السوري، وتأمين منظومة الدفاع الجوي، وبناء سوريا قوية.

نهاية الأوهام تعني الانتحار.. وإسرائيل كشفت عن مواطن ضعفها

بعد غزة والضفة الغربية، تحاول إسرائيل الآن فرض ضغوطها على لبنان والأردن، وتسعى لتوسيع هذا الضغط ليشمل سوريا ومصر. غير أن هذا التوسع لن يتحقق.

إسرائيل، التي ترى نفسها القوة المهيمنة في المنطقة، أصبحت تدرك مواطن ضعفها، والأهم من ذلك أن كل دول المنطقة باتت على دراية بتلك الهشاشة. وتعلم إسرائيل جيدًا أنها لن تصل إلى ما تحلم به.

على الأرجح، تنتظر دول المنطقة مزيدًا من تفكك القوة الغربية قبل أن تتحرك. وبعدها، سيتحول المشهد إلى طوفان على إسرائيل لا مفر منه. وبهذه الحالة، لن يكون بمقدور إسرائيل أن تتزعم المنطقة. إذ إن دولة لم تستطع إخضاع حفنة من المقاتلين في غزة، لن تتمكن من مطاردة أوهام جديدة، وإلا فإن مصيرها سيكون الانتحار.

تركيا ستتموضع على جميع حدود إسرائيل

سواء أرادت إسرائيل أم لا، سيتم إنشاء مجال أمني مشترك بين تركيا وسوريا ولبنان. ولم يعد بالإمكان منع ذلك. ومهما كانت الاستفزازات، ومهما تم دفع تنظيم "بي كي كي" الإرهابي بالكامل إلى مهاجمة تركيا، فإن المسار لن يتغير.

الأمر واضح وصريح: تركيا ستتموضع على جميع حدود إسرائيل. ستتموضع في الجولان، وفي جنوب لبنان. وستُرسل كل وسائل الدعم والمقاومة الممكنة إلى غزة. كما ستبني تركيا قوة هائلة في شرق المتوسط، وستُطبق طوقًا بحريًا على إسرائيل، لتُحاصرها وتحبسها داخل حدودها.

حرب تركية ـ إسرائيلية حتمية.. ولن تبقى في إطار التصريحات بل ستنتقل إلى الرد العسكري

إذا استمر الوضع على هذا النحو، فإن تركيا ستحاصر إسرائيل بالكامل. محاولات إسرائيل لإعلان اليونان شريكًا لها، وتحويل الإدارة الرومية القبرصية إلى قاعدة عسكرية، أو تأسيس تحالفات عسكرية ضد تركيا، لن تجلب لها أي نتيجة. فالإدارة الرومية القبرصية واليونان لديهما من التجربة ما يكفي لمعرفة عواقب الصدام مع تركيا.

لقد أصبحت المواجهة العسكرية بين تركيا وإسرائيل أمرًا لا مفر منه. وأي هجوم يُنفذ غدًا ضد العناصر العسكرية التركية، أو القواعد الجوية، أو المصالح التركية في المنطقة، لن يُواجه بالخطابات، بل برد عسكري مباشر سيطال سماء تل أبيب. وبعد كل هجوم، ستزداد عزلة إسرائيل، وستُحاصر، وستُدفع إلى الانكفاء إلى سواحلها الضيقة في المتوسط.

ستركع أمام تركيا

من الآن فصاعدًا، الخيار الوحيد المتاح أمام إسرائيل هو الركوع أمام تركيا. هذه هي الطريقة الوحيدة لتجنب الحرب. وسنرى بوضوح قريبًا أنه لا توجد أي طريقة أخرى.

سيتم التخلي عن سياسة الدفاع في وجه إسرائيل على امتداد المنطقة، وستبدأ مرحلة الهجوم المباشر عليها. وهذه الهجمات ستقود إلى القضاء على إسرائيل، ولن يكون بمقدور أحد أن يمنع هذا المصير.

والواقع أن إسرائيل نفسها هي من يقود إلى هذه النتيجة. ونحن نسمي هذا المسار: الانتحار!

عن الكاتب

إبراهيم قاراغول

كاتب تركي - رئيس تحرير صحيفة يني شفق


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس