إبراهيم قاراغول - يني شفق

سيكون من الشائع بين مؤرخي المستقبل استخدام عبارات مثل "قرن الأتراك الحادي والعشرين" أو "عودة الأتراك الثانية". أما أولئك الذين يقيّمون الحاضر من خلال تفاصيله الصغيرة ويعجزون عن الرؤية الشاملة، فلن يقتربوا حتى من إدراك هذا التحول الجغرافي والتاريخي الكبير.

إذا نظرنا إلى هذا التحول من منظور قومي ضيق أو ضمن فهم تقليدي للعُثمانية، فإننا سنفشل في استيعاب البنية الجديدة لقوى العالم الكبرى.

لذا علينا أن نعود مجددًا إلى الأدوار التاريخية الواسعة التي أدّتها الأمم، إلى جيناتها السياسية، إلى قدرتها على صنع التاريخ، وعلى تشكيل الجغرافيا، وأن نحاول التنبؤ بما قد يحدث في الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين.

الإنسانية التي حُوصرت في الغرب تتحرر بعد خمسة قرون

في الواقع، ما نعيشه اليوم قد يؤدي إلى تحوّلات أعمق بكثير من نتائج الحربين العالميتين الأولى والثانية. فللمرة الأولى، يتفكك حكم الغرب الذي لم يتخلّ عن تفوقه منذ بداية الاستعمار قبل أكثر من خمسمئة عام.

اليوم، تدخل قوى جديدة ومجتمعات ذات ميراث إمبراطوري إلى الساحة. تنتشر مجالات النفوذ على امتداد العالم، ويبدأ مفهوم "الأمم الكبرى"، الذي ظل محصورًا في الغرب لقرون، بالتغير، وتبدأ عودة الشعوب الكبرى من جديد.

في ضوء هذه الحقيقة، تبدأ الأمم الصانعة للتاريخ بإعادة تشكيل مناطق نفوذها في مختلف أرجاء الأرض بعد مئات السنين.

تحالف الشعوب الثاني بعد ملاذكرد: لولا الأتراك لانقطع التاريخ

ما تفعله تركيا اليوم ليس من أجل عالم اليوم، بل من أجل بناء عالم الغد. هي تحاول الربط بين الماضي والمستقبل. لقد أنقذ الأتراك الخلافة العباسية، ودخلوا الأناضول بعد معركة ملاذكرد، وأسسوا عبر التاريخ دولًا عديدة في هذه الجغرافيا، كلها اعتمدت على تحالف بين الشعوب. واليوم، يفتح الأتراك باب تحالف جديد للشعوب، أكبر وأوسع من سابقاته، وبناء مجال نفوذ أعظم بكثير.

لو أزلنا الأتراك من تاريخ الألف سنة الماضية، لما بقي شيء يُدعى تاريخ في هذه الجغرافيا. سيكون هناك فراغ وغموض كبيران. سينهار تاريخ العرب وتاريخ إيران. وفي أوروبا، بل حتى في تاريخ روسيا منذ دولة القبيلة الذهبية، ستظهر فجوات ضخمة.

عودة تاريخية ثانية: ستوحد الجغرافيا وتغير العالم

من آسيا الوسطى إلى الأناضول، ومن ما يُعرف اليوم بالشرق الأوسط إلى أوروبا، ومن إيران إلى البحر المتوسط، كانت الألف سنة الماضية مشكّلة بإرادة الأتراك ودورهم في بناء التاريخ ورسم الجغرافيا.

وبعد "القرن التركي" في القرن السادس عشر، نشهد اليوم نهضة تركية جديدة. وربما تكون هذه هي "العودة الثانية" إلى مسرح التاريخ. ومن المحتمل أن تبرز هذه العودة بشكل أوضح في النصف الثاني من القرن الحادي والعشرين.

لقد اندفعت هذه الموجة من آسيا الوسطى إلى الغرب، محملة بقوة الإسلام الكاسحة، وأسست دولًا كبرى في كل أرض بلغتها، وبنتها عبر تحالفات بين الشعوب المحلية، وكانت دائمًا من بين القوى العالمية المؤثرة. لكن هدفها لم يكن مجرد إعادة تشكيل الجغرافيا، بل السعي لتغيير العالم.

صراعات مستمرة مع القوى العظمى في الصعود والانهيار

هذه القوة كانت تخوض صراعاتها دائمًا مع أقوى القوى العالمية في زمنها، سواء في أوقات الصعود أو التراجع. لم تنحصر في التفاصيل الصغيرة، ولم تتصادم مع جغرافيتها، بل جمعتها واستعدت بها لمعارك النفوذ العالمية.

وقد سار هذا الشعب قرونًا باتجاه الغرب، حتى واجه في بدايات القرن التاسع عشر كارثة كبرى، حين وجد نفسه أمام هجوم شامل من الأمم الغربية بهدف محوه.

لكن، ورغم فقدانه لقوته، لم يتوقف عن التوجه نحو الغرب خلال القرن العشرين، بل حاول هذه المرة تحقيق ذلك من داخل حلقات التحالف مع الغرب، وضمن أُطر جديدة مختلفة.

تحرر من أسر الجغرافيا... استعدّ للقرن الحادي والعشرين

رغم تفكك القوة الغربية، ورغم صعود تركيا الملفت في هذه المرحلة، فإن إصرار الاتحاد الأوروبي على موقفه ما يزال قائمًا. وهذا الإصرار ليس مجرد هدف اقتصادي، بل هو امتداد مباشر للتركيبة الجينية السياسية التي تسعى منذ قرون لتشكيل مناطق نفوذ كبرى.

في القرن العشرين، أصيبت تركيا بإحباط عميق دفعها إلى النأي بنفسها عن محيطها الجغرافي، وهو قرار كانت له مبرراته القوية. فلو لم تفعل، ربما ما كانت قادرة اليوم على استعادة عافيتها والانطلاق من جديد.

ومع ذلك، ورغم استمرارها في مسيرتها غربًا منذ معركة ملاذكرد، فإنها لم تسمح للجغرافيا بأن تُقيدها. لكنها، كما في الماضي، ما إن تتحرك حتى تفعل ذلك بالتوازي مع محيطها الجغرافي. لقد فعلت ذلك أيام السلاجقة، وكررت الأمر مع العثمانيين، واليوم تمضي على النهج نفسه، حيث تبني صعودها الجديد عبر شراكة مع شعوب الجغرافيا من حولها.

تلك الصلابة في الصبر، الجينات السياسية الحيّة، الهدف العظيم...

على مدار الألف سنة الماضية، كانت جميع الصراعات الكبرى في جغرافيتنا بقيادة الأتراك. أما فترة التوقف خلال القرن العشرين فكانت مرحلة تجميع للقوة، وقد انتهت الآن. العاصفة أُعيد تشكيلها، وبدأت بالتحرك.

مفاهيم مثل "قرن تركيا"، و"محور تركيا"، و"الحزام الفائق" الممتد من آسيا الوسطى إلى شرق وشمال إفريقيا، ليست سوى تعبيرات عن هذا الهدف الكبير.

رغم كل الدمار والكوارث، حافظوا على ذلك الصبر الهائل، وأبقوا على الجينات السياسية حيّة، ولم يتخلّوا عن هدفهم العظيم. وها هم من جديد، يطلّون على مسرح التاريخ في القرن الحادي والعشرين، حاملين راية الإسلام، من أجل تغيير مسار التاريخ.

لا يمكن إيقاف هذه العاصفة لا بإسرائيل ولا بـ تنظيم بي كي كي الإرهابي!

يجب أن تدرك الشعوب المحيطة أن هذه معركة مشتركة، وأن لا طريق آخر للخلاص في جغرافيتنا. هذا هو العلاج الوحيد المجرّب والناجح أمام فوضى وانهيارات القرن العشرين.

لن تُوقَف هذه العاصفة لا بإسرائيل ولا بتنظيم بي كي كي الإرهابي. كما لم تُوقفها الإمبراطورية البيزنطية، ولا التمردات في الأناضول، ولا البريطانيون، ولا الفرنسيون، ولا الروس، ولا حتى خطط الإبادة التي استهدفت الأناضول خلال الحرب العالمية الأولى. التاريخ قد يتوقف أو يتأخر، لكنه حتمًا يمضي إلى الأمام.

إن تحرك أتيلا نحو روما، وتحرك العثمانيين نحو فيينا، ينطلق من الهدف نفسه. واللافت أن هذه الأهداف لم تتغير سواء في مرحلة ما قبل الإسلام أو بعده. وحين حاول العثمانيون نقل راية الإسلام إلى المحيط الأطلسي بعد توحيد الجغرافيا، فإنما فعلوا ذلك في سبيل هذا الهدف.

الذاكرة السياسية، والذاكرة التاريخية، وحتى الشعور بالثأر، لا يبهتان مهما مرّ الزمن

لذلك، تبقى ذاكرة الحرب العالمية الأولى، وتفتيت الجغرافيا، واحتلال الأناضول، ومحاولات محو الأتراك من التاريخ، حيّة في التركيبة السياسية لهذه الأمة.

عاجلًا أم آجلًا، سيتم أخذ الثأر. ويُنتظر الوقت الأنسب لذلك بصبر طويل. هكذا كان نهجهم دائمًا عبر التاريخ. وحتى في تحالفهم مع الغرب، لا يغيب عن ذاكرتهم حساب الغرب معهم. ومن خصالهم أنهم لا ينسون أبدًا، ولو مرّت قرون.

إنهم سيطالبون حتمًا بحساب القدس، وبحساب جناق قلعة، وبحساب تهجير البلقان، وبحساب المجازر والإبادات الكبرى التي دفنوها بصمت في أعماقهم. وسيفتحون من جديد ملف البحر المتوسط وبلاد الرافدين.

لا أحد يستطيع أن يعرقل تركيا

بما أن صفحة هذا التاريخ قد فُتحت، فلن تتمكن أي من تنظيم بي كي كي الإرهابي، أو سائر التنظيمات الإرهابية، ولا حتى التوسع الإسرائيلي، أو التهديدات الخارجية، ولا محاولات الطعن من الداخل كخطط حزب الشعب الجمهوري، من إبطاء مسيرتهم أو عرقلة طريقهم.

سيتغلبون على هذه التهديدات بأسلوبهم الخاص، وسيتجاوزونها، وسيتخلصون من كل ما يعرقل مسيرتهم الكبرى. وسيفعلون ذلك بكلماتهم، وبأسلحتهم، وباستراتيجياتهم الخاصة.

لماذا الحرب مع إسرائيل حتمية؟

إن النقاش حول "الحرب التركية – الإسرائيلية" في هذه المرحلة لا ينبع فقط من المجازر الكبرى في غزة. فهذه المجازر أحيت الغضب المشروع للأتراك، الذين كانوا يعيشون مع أهل غزة منذ عام 1917.

لكن إسرائيل أيضًا:

1- كانت من الدول التي هاجمت تركيا خلال أحداث "غيزي"، وأحداث 17-25 ديسمبر، وفي محاولة الانقلاب في 15 يوليو.

2- استخدمت تنظيم بي كي كي الإرهابي لمهاجمة تركيا، ودعمت جميع محاولات الانقلاب ضدها.

3- سلّحت تنظيم بي كي كي الإرهابي وحرّضته على مهاجمة تركيا، وتمركزت على حدودها وهددتها من هناك.

4- كانت من الجهات التي نظّمت الاغتيالات والاعتداءات الاقتصادية من الداخل.

5- هدّدت تركيا بشكل مباشر من البحرين المتوسط وإيجه بالتعاون مع اليونان وإدارة قبرص اليونانية.

6- عرقلت الشراكة التركية – السورية، وهاجمت القواعد التركية المخطط إنشاؤها، وكانت وراء كل المؤامرات والاعتداءات في الجغرافيا بأسرها ضد تركيا.

لماذا على إسرائيل أن "تركع"؟

لذلك، من الطبيعي تمامًا أن تُصنّف تركيا إسرائيل كتهديد أول. وهي ستستخدم كل الوسائل الممكنة لمواجهة هذا التهديد وستحقق النتيجة.

نعم، تركيا تشكّل تهديدًا لإسرائيل، وستبقى كذلك. بل وستزيد من هذا التهديد. وطالما أن إسرائيل لم تركع، فإن هذه الحرب حتمية. وأعتقد أنها ستضطر للركوع.

في هذا التحول التاريخي الواسع، فإن إسرائيل وتنظيم بي كي كي الإرهابي لا يمثلان سوى أهداف صغيرة. ومن يظن أن هذه الأمة، التي اعتادت مقارعة أعظم القوى العالمية، لن تتمكن من التصدي لهما، فإنه لا يعرف التاريخ.

يُبنى الآن نفوذ سيتجاوز من المتوسط إلى المحيطات

سيُكتب كثيرًا عن "قرن الأتراك الحادي والعشرين". وسنشهد الكثير من الأمثلة. سيتم بناء عالم جديد على أساس وحدة الجغرافيا وتحالف الشعوب، وسيكون هذا من بين مراكز القوة العالمية في القرن الحادي والعشرين.

وأنا شخصيًا أرى أنه يُبنى حاليًا "حزام فائق إقليمي" سيمتد من المتوسط إلى المحيطات، بتوجيه من تلك الإرادة التي رفعت الجغرافيا منذ ملاذكرد حتى اليوم.

لن نفوّت هذه الفرصة!

علينا أن نستعد لهذا التحول. علينا أن نحمله في وعينا. علينا أن نعزز بنيته الفكرية. هذا التحول التاريخي لا يمكن إيقافه. سنشهد أن من يقف بجانب تركيا سيربح، ومن يعارضها، سواء من الداخل أو الخارج، سيخسر.

هذا زمن الكلمات الكبرى، والطموحات العظمى، والرجال الشجعان. والحقبة الاستثنائية التي نعيشها قد منحتنا هذه الفرصة.

ونحن بدورنا، سنغتنم هذه الفرصة... ولن نفوّتها أبدًا.

عن الكاتب

إبراهيم قاراغول

كاتب تركي - رئيس تحرير صحيفة يني شفق


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس