
ترك برس
تناول تقرير للكاتب والخبير التركي نيدرت إيرسانال، في صحيفة يني شفق، تصاعد مؤشرات التغير في الموقف الغربي من إسرائيل، على خلفية الجرائم التي ارتكبتها في غزة.
وسلط الكاتب الضوء على حادثة اغتيال دبلوماسيين إسرائيليين في واشنطن كحدث مفصلي قد يشير إلى تحوّل في المزاج السياسي داخل مراكز القرار الأمريكية والأوروبية.
كما استعرض إشارات سياسية وإعلامية توحي بعزلة متزايدة لتل أبيب، وسط تصاعد الخلاف بين إدارة ترامب والدولة العميقة في الولايات المتحدة، وتبدّل أولويات الغرب تجاه الشرق الأوسط.
وفيما يلي نص التقرير:
في واشنطن، قُتل دبلوماسيان إسرائيليان – أو كما وصفهما الإعلام الإسرائيلي بـ"موظفَي سفارة" – في حادثةٍ تزامنت مع تصاعد مؤشرات تنذر بأن شيئًا ما يُحاك لإسرائيل في الغرب.
فقد بدأت تتجلى ملامح خطوات محتملة لعزل إسرائيل، من قِبل الولايات المتحدة وأوروبا جراء وحشيتها الأخيرة في غزة وفلسطين. صحيح أنه لا يمكن الوثوق بأي طرف غربي عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، ولكن هناك "اتجاه" لا يمكن إنكاره، ويستحق التوقف عنده على الأقل.
ولنبدأ ببريطانيا..
أعلنت لندن تعليق المفاوضات الجارية مع تل أبيب بشأن اتفاقية التجارة الحرة، واستدعت سفيرها للاستفسار عمّا يحدث. أما السويد، فقد تقدّمت بمقترح لفرض عقوبات على بعض الوزراء الإسرائيليين. وحتى ترامب صرّح قائلاً: "الناس في غزة يموتون جوعاً، علينا أن نساعد الفلسطينيين، وقد بدأت بالعمل على ذلك". وأضاف بشأن العقوبات المفروضة على سوريا: "لم أطلب رأي إسرائيل في رفع العقوبات عن سوريا".
وأصدرت كل من النرويج، وآيسلندا، وإيرلندا، ولوكسمبورغ، ومالطا، وسلوفينيا، وإسبانيا بياناً مشتركاً جاء فيه: "يجب على إسرائيل تغيير سياستها فوراً. إن التهجير القسري للفلسطينيين تحت أي ذريعة يعدّ انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، ونحن نرفض بشكل قاطع أي محاولات لإحداث تغيير ديموغرافي."
بل إن الصحافة الإسرائيلية نفسها لم تتردد في نشر عناوين تقول: "ترامب لنتنياهو: أنت مطرود"، غير أن الحكومة الإسرائيلية تعيش في عالمٍ موازٍ؛ والوزراء في تل أبيب يُظهرون "تحدياً وقحاً"؛ فقد صرّح وزير المالية الإسرائيلي، سموتريتش، قائلاً: "نحن ندمّر كل ما تبقّى، والعالم لا يستطيع إيقافنا". و"العالم" هنا، يشمل حتى الغرب ذاته.
كما طرح الاتحاد الأوروبي، خلال اجتماع وزراء الخارجية، مسألة مراجعة الاتفاقيات التجارية مع إسرائيل. وأعلنت الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية كايا كالاس أن "هذه الفكرة حظيت بدعم أغلبية الدول الأعضاء"، مضيفةً أنه بالتعاون مع فرنسا وكندا والمملكة المتحدة، "سيتم اتخاذ إجراءات ملموسة إذا لم تُرفع العقبات أمام المساعدات الفلسطينية بشكل كامل وفوري".
وكتبت صحيفة "واشنطن بوست"، نقلاً عن مصادر في البيت الأبيض: "ترامب وفريقه يوجهون رسالة إلى إسرائيل مفادها: إن لم تُنهوا هذه الحرب، فسوف نتخلى عنكم".
في الواقع، لم تكن الواشنطن بوست وحدها، وربما كانت الإشارات الواردة في وسائل الإعلام أكثر دلالة على نهج الغرب من التصريحات الرسمية الصادرة عن الدول أو المؤسسات الدولية؛ حيث بدأت وسائل الإعلام العالمية الرائدة مثل بي بي سي، ونيويورك تايمز، ووول ستريت جورنال، وفاينانشال تايمز، والإيكونوميست، والغارديان، بتكثيف أخبار بنفس النبرة خلال 48 ساعة، رغم أن كل واحدة منها تمثل مصالح وشرائح سياسية واقتصادية مختلفة.
وفي تركيا، لم تُناقش هذه التطورات في إطار تحليلي شامل، وإنما عُرضت كأخبار متفرقة، تحت عناوين من قبيل: "صباح الخير أيها الغرب". وهذه العناوين رغم ما تحمله من اتهام ضمني للغرب باللامبالاة، فإنها في الوقت ذاته تشير إلى "صحوة متأخرة".
باختصار، لقد بدا وكأن هناك من يحاول إقحام عصا في عجلة "عربات جدعون الحربية".
ثم وقعت الحادثة..
قُتل دبلوماسيان إسرائيليان في واشنطن، وتحديداً قرب " المتحف اليهودي" الذي طالما شكّل منصة لروايات المحرقة. فاستُخرجت الذكريات من اللاوعي، وعُرضت من جديد على موائد الغرب، لتتغيّر الأجواء فجأة.
فإسرائيل، بقيادة نتنياهو، التي مارست خلال الشهور الماضية إبادة ممنهجة بحق الفلسطينيين، نساءً وأطفالاً وشيوخاً ومرضى ومعاقين، حتى بلغ عدد ضحايها على أقل تقدير 53 ألف مدني، استعادت فجأة حضورها الأخلاقي في الغرب بمجرد فقدان اثنين من دبلوماسييها.
واليوم لا نعلم إن كانت هذه الحادثة ستوقف ما يُحضِّره الغرب لإسرائيل أم لا، لكن ثمة ضرورة لإجراء تمارين ذهنية حول آليات جرائم القتل، ليس فقط بطرح سؤال "من المستفيد؟"، بل أيضًا من خلال مبدأ " من ضغط على الزناد لا يعرف القاتل الحقيقي".
قبل الهجوم بأيام قليلة، نشر مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي السابق على حسابه في وسائل التواصل رمزًا مشفَّرًا: "8647"، وقد أثار هذا الرمز ضجة كبيرة، واعتُبر تهديدًا موجَّهًا إلى الرئيس ترامب، الأمر الذي دفع مكتب التحقيقات الفيدرالي الجديد إلى فتح تحقيق رسمي.
هناك العديد من الدلائل على الصراع المستمر بين "أمريكا القديمة" و"أمريكا في عهد ترامب". وهذا الصراع لا يقتصر على العاصمة فحسب، ففي أوروبا والشرق الأوسط حيث تتغلغل أذرع الدولة الأمريكية العميقة، تستمر الخلافات التي تمتد إلى داخل الحكومات نفسها. إنها معركة كبرى تتعلق بمستقبل القوى العالمية، واتجاه الأموال الضخمة جداً، وبالنظام العالمي نفسه.
وتشمل هذه المؤشرات محاولات التقارب مع إيران وسوريا بما في ذلك تنظيم "بي كي كي/واي بي جي" الإرهابي، وسياسة عزل إسرائيل، وتجديد العلاقات مع تركيا، والخطوات التقاربية مع بوتين في حرب أوكرانيا، وإذلال زيلينسكي في المكتب البيضاوي، وهو ما انعكس على بريطانيا وفرنسا وألمانيا أيضًا، والفتور في التعامل مع الاتحاد الأوروبي، بل وحتى مع حلف الناتو، وسياسة تجنب الحروب، واحتواء التوتر بين باكستان والهند بسرعة، ومحاولات إقامة شراكات مع الدول العربية ودول الخليج رغم هيمنة المظاهر المالية. وغيرها من المؤشرات.
أما داخل الولايات المتحدة، فيكفي أن نُشير إلى مثال واحد: فور تسلم ترامب السلطة، شرع على الفور بتصفية آلاف الموظفين من وكالة الاستخبارات المركزية، ومكتب التحقيقات الفيدرالي، والبنتاغون، ووزارة الخارجية، ومجلس الأمن القومي، بل وحتى البيروقراطية داخل البيت الأبيض. وباختصار، فإن الحرب بين ترامب والدولة العميقة لا تزال مستعرة بكل عنفوانها، وهي على صلة وثيقة ومعلنة باللوبي الإسرائيلي.
من يقف وراء الاغتيالات؟
هناك العديد من الأشخاص يشعرون بعار الفاجعة الإنسانية التي تحدث في فلسطين، بل إن أرواحهم مثقلة بهذا الألم. وهذا أمر طبيعي. قد يبدو تفسيره بعمل فردي في لحظة جنون تفسيرا معقولا، أو اعتباره هجوماً إرهابياً صريحاً. فالمجازر الوحشية التي ترتكبها إسرائيل، إلى جانب هبوط حاملات الطائرات على سواحل البحر المتوسط، قد ولّدت شعوراً بالغاً بالظلم والعجز على الصعيدين الإقليمي والعالمي. ولهذا، أذكر أن بعض وسائل الإعلام كانت تتساءل عما إذا كان "الإرهاب" يمكن أن يكون رداً أم لا. ولكن لم يحدث ذلك. فحتى حين كانت الدبابات تسحق أجساد الأطفال، لم يُقدم أحد على عمل إرهابي. فهل يُعقل اليوم وفي مثل هذا التوقيت والمكان بالذات أن يقدم أحد على ذلك!؟
وإذا لم يكن كذلك، فهذه العملية هي تحذير موجّه أولًا إلى ترامب، ورسالة إلى الجميع ينبغي عدم تجاهلها.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!