ترك برس
سلط مقال للكاتب والإعلامي التركي توران قشلاقجي، الضوء على الإسهامات التي قدمتها عائلة كاموندو اليهودية للدولة العثمانية بعد أن فرّت إلى أراضيها هربا الضغوط في إسبانيا.
وقال الكاتب التركي في مقال بصحيفة القدس العربي إن إسهامات عائلة كاموندو في الدولة العثمانية كانت لها أهمية أكبر في عهد السلطان عبد الحميد الثاني.
وأوضح أن السلطان عبد الحميد قدّر مهارات هذه العائلة وولاءها للإمبراطورية، وكرّمها في مناسبات رسمية. وعندما توفي أبراهام سالومون كاموندو في باريس عام 1873، تم نقل جثمانه وفقاً لوصيته إلى إسطنبول، ليدفن في مقبرة هاسكوي بمراسم رسمية، شارك فيها السلطان شخصيا.
وفيما يلي نص المقال:
التاريخ مليء بقصص متروكة للنسيان. ومن بين هذه القصص، قصة عائلة كاموندو التي لجأت إلى الأراضي العثمانية وتركَت أثراً عميقاً فيها. يهود السفارديم الذين هربوا من ظلم محاكم التفتيش في إسبانيا وجدوا في الدولة العثمانية ملاذاً آمنا، ليس فقط لأنفسهم، بل أيضا للحفاظ على هويتهم وثقافاتهم. مبدأ العدالة والتسامح في الدولة العثمانية فتح أمامهم أبواب حياة جديدة، مما منحهم فرصة للسلام والتطور. وكانت عائلة كاموندو واحدة من أبرز أبطال هذه القصة.
فرّت عائلة كاموندو عام 1492 من محاكم التفتيش في إسبانيا، ولجأت أولاً إلى البندقية ثم إلى الدولة العثمانية. استقر أفرادها في إسطنبول في حي أورطاكوي، ومن ثم أسسوا أحد أكبر المؤسسات المالية في الإمبراطورية العثمانية، وحققوا مكانة مهمة في الحياة الاقتصادية للدولة. أنشأ الإخوان إسحاق وأبراهام سالومون كاموندو بنك «إسحاق كاموندو وشركاؤه»، وسرعان ما أصبح البنك مؤسسة مالية دولية. وقد لفت هذا النجاح انتباه البلاط العثماني؛ فكانت العائلة تقدم استشارات مالية، وتوفر الدعم المالي في فترات حاسمة مثل حرب القرم، ما أسفر عن تأسيس علاقة وثيقة مع الحكومة.
كان لإسهامات عائلة كاموندو في الدولة العثمانية أهمية أكبر في عهد السلطان عبد الحميد الثاني. فقد قدّر السلطان عبد الحميد مهارات هذه العائلة وولاءها للإمبراطورية، وكرّمها في مناسبات رسمية. وعندما توفي أبراهام سالومون كاموندو في باريس عام 1873، تم نقل جثمانه وفقاً لوصيته إلى إسطنبول، ليدفن في مقبرة هاسكوي بمراسم رسمية، شارك فيها السلطان عبد الحميد شخصيا. وقد تم إعلان الحداد في إسطنبول لمدة ثلاثة أيام، توقفت خلالها جميع الأعمال التجارية وحتى أنشطة البورصة. هذا كان مثالاً على تسامح الدولة العثمانية وقيادة عبد الحميد التي كانت شاملة وتحتضن جميع الأديان والمجموعات الثقافية.
لم تقتصر إسهامات عائلة كاموندو على المجال المالي والاقتصادي فقط، بل قدمت أيضا مساهمات مهمة في الفن المعماري، سواء في الإمبراطورية العثمانية، أو في أوروبا. ما زالت «سلالم كاموندو» في حي غالاطة في إسطنبول، التي صممت على الطراز الحديث، واحدة من روائع فن الآرت نوفو. إلى جانب ذلك، قامت العائلة ببناء المعابد اليهودية والمدارس والمستشفيات والمباني السكنية، ما أثرى الجمال العمراني للحياة الاجتماعية في المدينة. لم تقتصر هذه الإسهامات على إسطنبول فقط، بل تركت العائلة بصماتها المعمارية والفنية في باريس أيضا.
قصر عائلة كاموندو في باريس يحمل اليوم اسم متحف نسيم دي كاموندو، الذي يستقطب الزوار من جميع أنحاء العالم. للأسف، تأثرت عائلة كاموندو بشكل كبير بفاشية القرن العشرين التي اجتاحت أوروبا. فقد لقي أفراد العائلة الأواخر حتفهم في معسكرات الاعتقال النازية، وبقيت آثارهم ومساهماتهم ورواياتهم محفورة في صفحات التاريخ. وتظل هذه القصة تذكرنا بتسامح الدولة العثمانية مع الأديان والثقافات المختلفة، كما تبرز العدالة التي تبناها السلطان عبد الحميد لجميع رعاياه، وتُظهر لنا كيف يمكن لأمة أن تتعايش معاً بسلام.
تُعد قصة عائلة كاموندو واحدة من أروع تجسيدات السلام والعدالة والتسامح التي سادت أرجاء الإمبراطورية العثمانية. لكن بينما كان اليهود في فترات حكم الخليفة عمر بن الخطاب وصلاح الدين الأيوبي وفي ظل العباسيين والسلاجقة والأندلسيين والدولة العثمانية ينعمون بمعاملة حسنة، فإن ما يحدث اليوم في فلسطين من ظلم على يد اليهود تحت حكم إسرائيل يجعل الجرح في قلب الإنسان عميقا.
لو كان العالم الأندلسي البارز موسى بن ميمون، على قيد الحياة اليوم، ورأى ما يفعله الصهاينة بالشعب الفلسطيني، فماذا كان سيقول لصديقه القديم ابن رشد؟ دعونا نتأمل؛ ففي وقت من الأوقات، لجأ يهود الغرب الذين فروا من ظلم الفاشية إلى الأراضي الفلسطينية، وعاشوا فيها بفضل رحمة ورأفة الشعب الفلسطيني. لكن هؤلاء اليهود أنفسهم اغتصبوا الأراضي الفلسطينية، ثم واصلوا قتل شعب فلسطين بوحشية طوال قرنين. ولو كان هتلر قادرا على رؤية ما يفعله نتنياهو وأتباعه، لربما كان سيقول: «لقد تخطى هؤلاء حتى همجيتي أنا!».
كم هو مؤلم أن يكتب التاريخ مرة أخرى القصص المليئة بالعبر لأولئك الذين يمارسون الظلم اليوم بعد أن كانوا مظلومين بالأمس. لكن يجب ألا ننسى بأن دموع المظلومين في غزة سوف تُنبت حتما بذور العدالة في يوم من الأيام.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!