
ترك برس
تناول تقرير للكاتب والسياسي التركي ياسين أقطاي، تحوّلات الفكر السياسي الإسلامي في أواخر الدولة العثمانية وبدايات العهد الجمهوري في تركيا، مركزًا على تطور مفهوم الإسلاموية من مشروع إصلاحي داخلي يسعى لتجديد الوعي الديني ومواجهة الاستبداد، إلى حركة مقاومة شعبية ضد الاستعمار والعلمنة القسرية بعد سقوط الخلافة.
واستعرض التقرير الذي نشرته صحيفة يني شفق جدل الوحدة الإسلامية داخل حزب الاتحاد والترقي، والتباينات بين التيارات القومية والإسلامية، ويحلل كيف تعامل الإسلاميون مع مؤسسة الخلافة بوصفها رمزًا سياسيًا واجه النقد والإصلاح قبل أن يُلغى ويُستبدل بجسد سياسي علماني.
كما أبرز الكاتب رموز الإسلاموية العثمانية الذين جسّدوا مقاومة فكرية وروحية للانقطاع الحضاري الذي فرضته الدولة الكمالية، مؤكدا على استمرارية المشروع الإحيائي الإسلامي عبر العصور رغم التحولات البنيوية.
وفيما يلي نص التقرير:
لقد كانت فكرة الوحدة الإسلامية وسيلة لا غنى عنها للحفاظ على كيان الدولة العثمانية السياسي، لذلك حتى العناصر غير الإسلامية في حزب الاتحاد والترقي، الذي ادعى الاتحاد، لم تكن بعيدة عن هذا الموضوع. لكننا أشرنا إلى أنهم اختلفوا حول نطاق هذه الوحدة ومُثُلها أو الممارسات السياسية المطبقة لتحقيقها. فالعناصر ذات النزعة التركية داخل الحزب كانت منذ تلك المرحلة المبكرة ترى أنه يجب على الدولة العثمانية أن تنسحب إلى قوقعتها وتكتفي بتمثيل الأتراك فقط، وتحديداً أتراك الأناضول، بدلاً من تمثيل جميع المسلمين، وأن هذه هي الطريقة الوحيدة للحفاظ على هذا الكيان السياسي.
وقد كانت الفكرة التي رُوّج لها لاحقًا لإنقاذ أبناء الوطن من الضياع في صحارى العرب، منبثقة في جوهرها من تصوّرٍ يرى في "الانكماش من أجل البقاء" استراتيجية ممكنة. فالفكرة تسللت إلى تيار القومية التركية في تلك الفترة بالذات وكانت ترى أن التصدي للخطر الذي يهدد كيان الدولة لم يعد ممكنًا بهذا الحجم وهذا الامتداد، وبالتالي، فإن البقاء سيكون ممكنًا فقط من خلال الانكماش والانزواء. ولكن حزب الاتحاد والترقي لم يكن يتكون فقط من القوميين الأتراك، بل كان منفتحًا على التنافس بين مختلف البرامج العلاجية المقترحة لإنقاذ الجسد السياسي وضمان بقائه. أما في نظر الإسلاميين، فإن التهديدات الخارجية التي تهدد وحدة الأمة لم تكن وحدها الخطر، بل كان ثمة ما ينهش الداخل من علل وأمراض ينبغي التصدي لها بنفس القدر من الحزم؛ من بدع وخرافات، وعادات دخيلة على الإسلام، وجهل، وتعصب، وجمود فكري، وخمول، وكسل، وربما كان الاستبداد السياسي أخطرها جميعًا.
ولهذا، فإن الفكر والسياسة التي ظهرت تحت اسم "الإسلاموية" لم يكن تركيزها الوحيد أو حساسيتها الكبرى هي الدفاع ضد العدو الأجنبي فقط، بل كانت أيضًا دعوة إلى الإصلاح والتجديد في مواجهة الانحراف داخل الإسلام نفسه. ففي أعمال محمد عاكف، نجد أن خطابه المناهض للإمبريالية الغربية رغم قوته لم يكن أشدّ وقعًا من خطابه المعارض للبدع والخرافات التي تنخر في صميم الإسلام. وكان يرى أن الإلهام يجب أن يُستقى مباشرة من القرآن الكريم، لتُجسّد رسالة الإسلام بما يتناسب مع وعي هذا العصر ومداركه.
ومعنى ذلك أن الإسلاموية لم تكن مجرّد رد فعل دفاعي ضد الإمبريالية، بل كانت في الوقت نفسه برنامجًا للإصلاح والتجديد ضد الفساد والتحريف الداخلي. ومن هذا المنظور فإن الإسلاموية ترتبط عبر التاريخ، بجميع الحركات الإحيائية التي ظهرت في العالم الإسلامي، وتُظهر بذلك امتدادًا واستمرارية لها. وهذه حقيقة بالغة الأهمية والقوة ضد محاولات اختزال الإسلاموية في كونها حركة أيديولوجية مستجدة ظهرت فقط في القرن التاسع عشر، كما تفعل العديد من التعريفات. فالحركة التي ظهرت تحت اسم "الإسلاموية" هي في الحقيقة عملية وعي بالذات. ولعل الإسلاموية، على غرار ما يطرحه ماركس من تمييز بين الطبقة "لذاتها" والطبقة "في ذاتها"، خاصية تُنسب إلى الشخص المسلم حين يبلغ درجة من الوعي بهويته الإسلامية.
ويمكننا القول إن القاسم المشترك بين الدوائر الفكرية المرتبطة بمجلة "سبيل الرشاد" وصحيفة "بيان الحق" في تلك الفترة، هو التأكيد على وحدة الأمة الإسلامية كأحد أبرز محاور الخطاب السياسي الإسلامي. ولكن من الجدير بالذكر أيضًا أن هناك تأكيدًا موازيًا على العودة إلى الفهم الصحيح للإسلام، وعلى مرجعية الكتاب، والعقل، والعلم، والإرادة، والعمل، والشورى؛ وهي قيم تُعدّ من السمات المميزة للإسلاموية، والتي يمكن رؤيتها ضمن استمرارية تاريخية.
ولكن ينبغي أن نلاحظ أيضاً أن من أهم ركائز الإسلاموية بين هذه القيم، هو إبراز الشورى والاجتهاد في مواجهة الاستبداد، وهو ما يحمل في طياته أهمية تاريخية خاصة ومفارقة مأساوية. فالتركيز على الشورى كان يتضمن انتقادًا لمنصب الخلافة والسلطنة الذي كان يمثله السلطان عبد الحميد الثاني في تلك الفترة. وهذا يظهر أن الإسلاميين، رغم اهتمامهم بالوحدة الإسلامية، لم يمتنعوا عن نقد الممارسات القائمة. لقد أنتجت هذه الرؤية الأدبية والفكرية تصورًا مفاده أن مؤسسة الخلافة في الدولة العثمانية باتت تُوظف لأغراض سياسية براغماتية، بل واعتُبرت أداة من أدوات الاستبداد في يد السلطان عبد الحميد. وقد لاقت هذه الفكرة قبولًا واسعًا في أوساط الإسلاميين.
غير أن هذه الانتقادات لم تكن ترمي إلى إلغاء الخلافة، بل كانت تسعى إلى إصلاحها، وإعادتها إلى مسار الشورى، أو على أسوء تقدير إعادة هيكلتها بطريقة مغايرة. ومن المؤسف أن بعض الحجج التي طُرحت آنذاك في سياق نقد الخلافة قد استُخدمت لاحقًا – بعد اجتثاثها من سياقها – كمبررات لإلغائها.
وقد اكتملت هذه المأساة في العهد الجمهوري، عندما وُظِّف جزء من هذا الميراث السياسي الإسلاموي الذي انتقل من الدولة العثمانية لخدمة سياسة علمانية متطرفة، إذ استُخدم في إطار مشروع التغريب، وإلغاء الخلافة، وشن حرب ضد الإسلام كله باسم مكافحة الدين الفاسد.
وبإلغاء الخلافة في عهد الجمهورية، لم يُترك المسلمون في تركيا فقط بلا قيادة، بل جميع المسلمون في أنحاء العالم الإسلامي وجدوا أنفسهم لأول مرة في التاريخ الإسلامي دون رأس أو جسد. وفي ظل هذا الفراغ، بقيت المواضيع الإسلامية الموروثة من الدولة العثمانية إلى الجمهورية دون سند مؤسسي أو تمثيل سياسي، واقتصرت على أنشطة المجتمع المدني والحركات الشعبية.
إن فكرة الأمة، حتى في أدنى مستوياتها، تواصل ربط جميع المسلمين حول العالم ببعضهم البعض معنويًا ودينيًا من خلال المعاني الكامنة في كل صلاة تُؤدّى. ولعلّ الفرق الأساسي بين الإسلاموية العثمانية والإسلاموية ما بعد العثمانية، إذا أردنا التعبير بلغة الجسد السياسي، هو أن الإسلاموية في الحقبة الأولى كانت سياسة جسد يسعى للبقاء على قيد الحياة ويبحث عن طرق لمواجهة التهديدات لتحقيق هذه الغاية؛ بينما الإسلاموية في المرحلة الثانية هي صراع إحياء جسد سياسي قُتل، يسعى إلى الحياة مجددا في نظر الشعوب (وهذه الشعوب ما تزال طبيعتها وتشكّلها الجغرافي والاجتماعي والسياسي بحاجة إلى مزيد من النقاش والتحليل). وبمعنى آخر، كانت الأولى تمثل رد فعل سلطة، بينما تحولت الثانية لحركة شعبية معارضة بالكامل.
وتجدر الإشارة إلى أن إلغاء الخلافة والوضع الذي أعقب ذلك كان في الوقت نفسه حالة احتلال واستعمار تعرض لها المسلمون، ولا تزال آثارها قائمة حتى الآن. فنحن اليوم لا نزال نواجه حقيقة استمرار تأثير هذا الاحتلال والاستعمار في جميع الدول التي تأسست بعد إلغاء الخلافة. ولهذا، فإن التيارات الإسلاموية التي ظهرت في عصر الجمهورية، ليس في تركيا وحدها بل في أنحاء العالم الإسلامي كافة، انطلقت أساسًا بوصفها حركات مقاومة ومعارضة للاحتلال والاستعمار، ولا تزال كذلك سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. لكن هذه الحركة ورثت في الوقت نفسه قيماً مثل العقلانية، والالتزام بالنصوص الشرعية، والعلم، والإرادة، والشورى من الإسلاموية العثمانية أو من حركات الإحياء السابقة. وهذه القيم تشكل في الواقع الأعمدة الأساسية لكل حركات الإحياء الإسلامي الممتدة عبر التاريخ.
ومع إلغاء الخلافة في عهد الجمهورية، تفكك الجسد السياسي الإسلامي، وأُقيم على أشلائه جسد سياسي آخر ذو طابع غربي وكمالي، تم تجسيده بطريقة مغايرة تمامًا. وقد سعى هذا الجسد الجديد إلى إثبات وجوده من خلال التمثيلات الرمزية على الأجساد الفردية. وكان "الطربوش" أبرز هذه الرموز التي مثّلت تجسيدًا للهوية السياسية الجديدة. ولا يمكن الاستهانة بالأهمية الإسلامية للمقاومة التي رفضت ارتداءه. وقد تجلّى هذا الرفض لهيمنة الجسد السياسي الجديد في أربعة أشكال من المقاومة، عبر أربع شخصيات رمزية وبارزة من العهد العثماني: محمد عاطف الإسكليبي، ومحمد عاكف أرسوي، وإلماليلي حمدي يازير، وسعيد النورسي. وكل من هذه الشخصيات جسّدت شكلًا مختلفًا من أشكال الفعل السياسي والوجود المبدئي. ومن خلال تأمل خصائص كل نموذج على حدة، يمكن فهم التنوّع السياسي اللاحق بشكل أفضل.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!