
ترك برس
استعرض مقال للكاتبة والباحثة المصرية صالحة علام، بموقع الجزيرة مباشر، أبعاد وتداعيات اتفاق السلام الأخير بين أذربيجان وأرمينيا برعاية أمريكية، والذي كان من المفترض أن يُنهي صراعًا دام أكثر من 35 عامًا، لكنه فجّر في المقابل موجة من التوترات الإقليمية.
ويتناول المقال المخاوف المتصاعدة لدى دول كبرى في المنطقة مثل روسيا وإيران من السيطرة الأمريكية على ممر زنغزور الاستراتيجي، واعتبارها تهديدًا مباشرًا لأمنهما القومي، مقابل ترحيب ودعم واضح من تركيا التي ترى في الاتفاق فرصة استراتيجية لتعزيز نفوذها الاقتصادي والجغرافي.
كما تسلّط الكاتبة الضوء على المكاسب التي تحققها واشنطن وحلف الناتو، والمخاوف من تحوّل الممر إلى بؤرة صراع جيوسياسي قد يشعل المنطقة مجددًا. وفيما يلي نص المقال:
إعلان السلام الذي تم توقيعه مؤخرا بين كل من أذربيجان وأرمينيا برعاية الولايات المتحدة الأمريكية، كان من المفترض أن ينهي حقبة طويلة من الخلافات التاريخية، والصراع الذي استمر بينهما على مدى 35 عاما، ويفتح المجال لبدء مرحلة جديدة من العلاقات السياسية والاقتصادية، ترتكز في مجملها على تحقيق مصالحهما المشتركة.لكن المعطيات التي ظهرت فور الإعلان عنه تشير إلى عكس هذه التوقعات، إذ يبدو أن منطقة القوقاز مرشحة لزيادة حدة التوتر بين دولها، خاصة تلك التي من المنتظر أن تفقد مكانتها، أو تواجه تهديدات لمصلحتها أو لأمنها القومي، وبين الدول الأكثر استفادة منه، مما قد يصل بالأمور إلى احتمالية اندلاع حرب بينها.
فرغم المصالح التي يمكن أن يحققها الاتفاق لمنطقة جنوب القوقاز المنتجة للطاقة، التي تضم في نطاقها الجغرافي كل من تركيا وإيران وروسيا وأوروبا، وتتقاطع بها خطوط أنابيب نقل نفط وغاز طالما عرقلت مسيرتها قضية الصراعات العرقية التي تعانيها المنطقة منذ عقود، ومسألة إغلاق الحدود بين دولها، بمن فيها المنطقة الحدودية الواقعة بين أرمينيا وتركيا. والترحيب الذي أبدته دول المنطقة تجاه الاتفاق، كونه يعد خطوة مهمة باتجاه تحقيق سلام دائم وعادل بالمنطقة، إلا أن هناك العديد من التصريحات الرسمية التي تشير إلى حالة من الاستياء والغضب داخل الأوساط السياسية، تنذر بعواقب سلبية للاتفاق، إذ حمل بعضها في طياته لوما وعتابا على تجاهل واشنطن للدور الإقليمي لدول المنطقة المعنية.
حيث انفردت وحدها بجمع طرفي النزاع، وحثهما على إبرام الاتفاق تحت رعايتها، دون اطلاع دول المنطقة المجاورة لكل من أذربيجان وأرمينيا على مجريات تلك المباحثات، أو فحوى ما جاء في الاتفاق، وما حمله من بنود لم يتم إيضاحها أو الإعلان عنها.
كما حملت تصريحات أخرى إشارات ضمنية تفيد بوجود مخاوف لدى بعض هذه الأطراف الإقليمية على أمنها القومي من جراء الاتفاق المشار إليه، كما هو الحال في التصريحات التي خرجت من العاصمة الروسية موسكو.
فترحيب الخارجية الروسية بالاتفاق، وإعلانها عن دعم موسكو للجهود الرامية إلى تعزيز الاستقرار والازدهار بالمنطقة، لم يمنعها من إطلاق تحذيرات لما وصفته بـ”التدخل الخارجي” في شؤون المنطقة، الذي قد يؤدي إلى تعقيد الوضع في جنوب القوقاز، والتأكيد أنه من المهم لدول المنطقة نفسها العمل على إيجاد حلول دائمة لقضاياها بدعم من جيرانها مثل روسيا وتركيا وإيران.
تصريح النائب الأول لرئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس الدوما الروسي حول الاتفاق، الذي عد فيه هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على ممر زنغزور خطوة سياسية بالغة الأهمية، ستغير موازين القوى في منطقة القوقاز، دون أي مشاركة من روسيا، يمثل تهديدا مباشرا لمصالح كل من إيران والصين والدول المجاورة لمنطقة القوقاز.
مما يوضح حجم المخاوف التي تنتاب روسيا من جراء الوجود الأمريكي في منطقة القوقاز، التي تعدها موسكو الفناء الخلفي لها، إلى جانب التأثير السلبي لهذا الوجود الذي يعد بمثابة تهديد لأمنها القومي، خاصة وأنها تخوض حربا ممتدة مع أوكرانيا لرغبتها في الانضمام لحلف “الناتو”، والوجود الأمريكي في ممر زنغزور بهذه المسافة القريبة منها يمثل تهديدا مباشرا لها، كونه يعني محاولة جديدة من جانب “الناتو” لملاصقة أراضيها من جهة الجنوب.
إيران، بوصفها أكثر دول المنطقة تضررا من هذا الاتفاق، جاءت مواقفها والتصريحات التي صدرت عن مسؤوليها أكثر حدة وتشدّدا، فدبلوماسيا رحبت الخارجية الإيرانية بالاتفاق، محذّرة من “أي تدخل أجنبي” قد يمس سيادتها أو يهدد مصالحها في المنطقة مع اقتراب الولايات المتحدة من حدودها.
إلا أن مستشاري علي خامنئي المرشد العام للثورة الإيرانية، ومسؤولي الحرس الثوري الإيراني، وأعضاء البرلمان، عدّوا جميعا منح الولايات المتحدة الأمريكية السيطرة الاستراتيجية الكاملة على ممر زنغزور لمدة 99 عاما قابلة للتمديد خيانة عظمى من جانب باكو وياريفان يجب ألا تبقى دون رد.
وأن سيطرة واشنطن على هذا الممر الحيوي بمثابة إنشاء قاعدة عسكرية واستخبارية لأمريكا وإسرائيل في شمال الجمهورية الإسلامية، بهدف الضغط على الأمن القومي الإيراني.
مما دفع عددا من وسائل الإعلام الإيرانية للمطالبة بإغلاق مضيق هرمز بوجه السفن الأمريكية والإسرائيلية كرد عملي من جانب طهران وخطوة أولى في المواجهة معهما.
تبدو المخاوف الإيرانية، وحالة الاستنفار السياسي والدبلوماسي، طبيعية في ظل المخاطر التي تحملها سيطرة واشنطن على الممر، خاصة وأن منطقة القوقاز تعد إحدى المناطق التاريخية القديمة المرتبطة بإيران، التي ستفقد سيطرتها الكاملة على تدفقات النقل، والقضاء على دورها كونها ممر عبور استراتيجيا، مع زيادة مخاطر تغير التوازن الجيوسياسي في المنطقة.
الذي سيقطع وصولها إلى أرمينيا، مما سيزيد من عزلتها عن منطقة جنوب القوقاز، إلى جانب مخاوفها من أن يؤدي هذا الاتفاق، والوجود الأمريكي، إلى تعزيز نفوذ كل من تركيا وأذربيجان على حدودها الشمالية، مما قد يؤدي إلى تنامي النزعة الانفصالية في إقليم أذربيجان الإيرانية الواقعة في الجنوب.
تراهن إيران في موقفها المتشدد من الاتفاق، والتهديد بالتصعيد، على موقف كل من روسيا والصين، اللتين لن تقبلا إحداث تغير جيوسياسي بالمنطقة، أو بالتمدد الأمريكي ومن ورائه حلف “الناتو”، لما يمثله ذلك من تهديدات مباشرة للدول الثلاث.
وعلى عكس السلبيات التي تنتظر إيران من وراء اتفاق السلام، تبدو تركيا الأكثر انفتاحا وترحيبا به، كونها الدولة الإقليمية الوحيدة الأكثر حصادا للإيجابيات التي يمكن أن تنتج عنه، لذا اتسم موقفها بالإيجابية، وأعلنت دعمها المطلق للمباحثات -رغم استبعادها منها، وتجاهل دورها الإقليمي-، وما أسفرت عنه من نتائج.
معلنة تأييدها لما تضمنه بشأن ممر زنغزور كونه سيصل أذربيجان بجمهورية ناخيتشيفان ذات الحكم الذاتي عبر الأراضي الأرمنية، مما يمنح أنقرة منفذا بريا مباشرا إلى بحر قزوين والدول الناطقة بالتركية في آسيا الوسطى، ويعزز مكانتها كهمزة وصل استراتيجية بين منطقة القوقاز وأوروبا، إلى جانب تعزيز دورها في صادرات المنطقة بمجال الطاقة، وزيادة حجم تبادلها التجاري مع دول المنطقة كليّة.
المكاسب التي خرجت بها الولايات المتحدة الأمريكية من جراء اتفاق السلام، واستئثارها بالسيطرة على ممر زنغزور لمدة 99 عاما قابلة للتجديد، وإقامة قاعدة نفوذ لها، وتوافد الشركات الأمريكية بكثافة وتمددها بالمنطقة، مع تجاهل تام لمصالح كل من روسيا وإيران والصين، تشي بأن هذا المشروع ليس اقتصاديا كما يتم تداوله إعلاميا، وإنما هو فعلا محاولة من جانب الولايات المتحدة وحلف “الناتو” للتغلغل في منطقة القوقاز، وإلغاء الدور الجيوسياسي لكل من إيران وروسيا بها، وتهديد مباشر لمصالح الصين، في مقابل تعزيز دور كل من واشنطن و”الناتو” وأذربيجان وتركيا، وفرض سيطرتهم التامة عليها.
ما ينذر بأن هذا الممر، الذي كان من المفترض أن يكون ممرا تجاريا واقتصاديا يجلب الأمان والرخاء لمنطقة القوقاز، سيتحول إن عاجلا أم آجلا إلى نقطة تهديد للأمن والاستقرار بها، وربما يؤدي إلى حدوث مواجهات واندلاع حرب، سواء مباشرة أو بالوكالة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!