
ترك برس
استعرض تقرير بصحيفة يني شفق التركية للكاتب والخبير السياسي نيدرت إيرسانال، أبعاد زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى نيويورك وواشنطن، مسلطًا الضوء على الدلالات السياسية والرمزية للقاءات مع الإدارة الأمريكية.
يتناول الكاتب الملفات التي طُرحت، وفي مقدمتها اتفاقات مفاجئة في مجال الطاقة والغاز الطبيعي المسال والمشاريع النووية، إلى جانب قضايا الدفاع مثل طائرات F-35 وF-16، والملفات الإقليمية كسوريا وفلسطين.
كما يناقش محاولات واشنطن إعادة أنقرة إلى مسارها التقليدي في مواجهة روسيا والصين، مقابل وعود أمريكية مؤجلة، بينما تحافظ تركيا على سياسة حذرة تنتظر تنفيذ الوعود قبل أي تغييرات استراتيجية.
وفيما يلي نص التقرير:
تميزت زيارات الرئيس أردوغان، إلى الأمم المتحدة في نيويورك أولاً، ثم إلى البيت الأبيض في واشنطن، بمشاهد وصور لافتة. فالدبلوماسية هي شكل من أشكال السياسة يولي أهمية كبرى بالتفاصيل الشكلية. ولم تقع أي أخطاء، بل قُدمت للرأي العام صور "في غاية الأناقة".
وبهذا، عادت الحياة للعلاقات الأمريكية التركية التي كانت تعاني منذ فترة طويلة من جروح بليغة.
لقد رأى العالم هذا، وتعززت القناعات حول هيبة وقوة أنقرة، وهو ما سيترك تأثيره في كل من الغرب والشرق.
لا تشغلوا بالكم كثيراً بصفحات الإعلام الحالية وتفسيراتها، ولا تعتمدوا كثيراً على تعليقاتها التي تضخم التطورات وتُحمّل "المنتجات الترويجية" للبيت الأبيض معاني مبالغ فيها، فهم لا يستطيعون كبت أنفسهم عندما يتعلق الأمر بالعلاقات مع الغرب.
فلنلتفت إلى ما هو أهم..
ماذا جَنَتْ تركيا وماذا قدَّمت؟ ومن أين برز ملف الطاقة؟
كانت تطلعات تركيا من الولايات المتحدة واضحة وملموسة ويمكن صياغتها في شكل بنود محددة. في المقابل، يبدو أن توقعات أمريكا كانت ذات طابع سياسي أكبر. وأقصد بذلك أن قضية الطاقة، على سبيل المثال، كانت إحدى القضايا التي لم تُذكر أبدًا تحت عناوين "الملفات المطروحة على الطاولة" قبل الزيارة.
فقد جرى التوقيع على اتفاقات حول الغاز الطبيعي المسال ومشروعات نووية لم يُعلن عنها سابقًا بشكل بارز. وتسعى تركيا جاهدة للتغلب على اعتمادها على الطاقة، وإحدى أدواتها هي تنويع مصادر مشترياتها. أي تأمين احتياجاتها من دول متعددة، وهو مسعى يرتبط مباشرةً بالأمن القومي. ومن ثم لا اعتراض على الاتفاقات المبرمة في هذا السياق. غير أنّها تكتسب معنى مختلفًا حين نضعها في سياق سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي تدعو إلى تقليص الاعتماد على الطاقة الروسية. ويزداد المشهد دلالةً إذا أُضيف إليه إعادة فتح خط أنابيب النفط بين العراق وتركيا في التوقيت نفسه.
والعلاقات التركية الروسية بدورها متشابكة في ملفات كثيرة، لا سيما في الجانب الاقتصادي. ويكفي النظر إلى أعداد السياح الروس في تركيا خلال السنوات الأخيرة وما يجلبونه من عائدات، لفهم هذا الوضع.
ويجب التطرق إلى ملف البرنامج النووي بشكل منفصل. فأنقرة لا تنتهج سياسة صناعة الأسلحة النووية، وخطابها الرسمي يتبنى مبدأ "لا يجب لأحد أن يصنعها". ولكن التهديدات التي تطورت في منطقتنا خلال العقد الماضي جعلت هذا الاحتمال يتردد بكثرة في أذهان وقلوب الرأي العام التركي.
وتذكرون جميعًا أن انخراط تركيا مع روسيا في مشروع إنشاء محطة نووية مشتركة قوبل بأشد الانتقادات من الغرب حيث قالوا: "ماذا سيأتي بعد ذلك؟ هل ستصنعون أسلحة نووية؟". أمّا وقد أُدرجت الولايات المتحدة الآن ضمن سياساتنا النووية في مجال الطاقة، فإنّ هذا الاحتمال يُطوى تمامًا ويتم استبعاده.
هل تدعو الولايات المتحدة تركيا للعودة إلى "الإعدادات الأصلية"؟
هناك تطورات أخرى حدثت أثناء الزيارة؛ على سبيل المثال، قيام طائرة الإنذار المبكر والتحكم المحمول جوا، التابعة لسلاح الجو التركي، بمهمة في ليتوانيا، ضمن إطار تدابير الضمان التابعة لحلف الناتو، في وقت تتصاعد فيه انتهاكات روسيا للمجال الجوي لدول الناتو.
وبالنظر إلى هذه التطورات، من الطبيعي أن يعلق العديد من الخبراء بقولهم "إنّ الولايات المتحدة تسعى إلى إعادة تركيا إلى المسار الذي يتلاءم مع سياساتها تجاه روسيا والصين". سوف نرى مع الوقت ما إذا كانت أنقرة ستغير سياستها "المحايدة". وإلا فإن رغبة الولايات المتحدة وبريطانيا في جذب تركيا إلى مسارهما ونطاق نفوذهما واضحةٌ أصلاً.
ولفهم الوضع يكفي أن ننظر إلى سبب اختيار ريتشارد مور، رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية البريطانية، لإسطنبول لإقامة حفل وداعه وإطلاق برنامج تجنيد العملاء المسمى "الساعي الصامت" (Silent Courier). فالمكان الذي تطلق فيه "منتجًا" ما، هو المنطقة التي تستهدف فيها عملاءك. وإذا كنت تعرف سياسة لندن تجاه روسيا، فلن تسأل حتى "ضد من؟".
وعود أمريكية آجلة مرتبطة بمتغيرات كثيرة
لننتقل إلى قضايا أخرى أيضًا..
نوقش ملف إسرائيل وفلسطين بشكل محدود في البيت الأبيض، إذ جرى التطرق إليه بصورة رئيسية في اجتماع غزة الذي عُقد على هامش اجتماعات الأمم المتحدة، وكان الجزء المذكور متعلقًا بذلك. وبالنظر إلى ما تسرب، فإن الملف تضمن لأول مرة خطة ملموسة ومدونة في بنود محددة، مع إيحاء بأن نتائجها ستظهر خلال فترة وجيزة.
لقد كان هناك حديث مطول حول ملفي طائرات F-35 و F-16. وقيل إن "الأول أسهل من الثاني". ولكن بالنظر إلى تصريحات السفير باراك والرئيس ترامب، يبدو أن الباب سيُفتح أمام طائرات F-35 بحلول مطلع العام الجديد. سنراقب التطورات عن كثب.
وفيما يخص ملفي سوريا و "قسد/بي كي كي" الإرهابي، وعد الجانب الأمريكي بحدوث تقدم أيضاً بحلول نهاية العام. وقد نوقش هذا الأمر كثيرًا أيضاً. ما هو هذا التقدم وكيف سيتحقق؟ علينا أن ننتظر ونرى.
وأخيراً، وهو أمر مهم، فإن التوقعات الاقتصادية التركية أصبحت لها مكانتها في علاقاتنا مع العلاقات مع الولايات المتحدة. ولكن إذا كانت هناك مطالب في المقابل تتعلق بموقفنا الجيوسياسي والاستراتيجي، فيجب توخي الحذر الشديد.
في الختام، بمجرد أن يزول التعب الناجم عن زيارة الولايات المتحدة، سيتم إجراء تقييم متأنٍّ للمكاسب لكلا الطرفين. فما قدمه الجانب الأمريكي يبدو آجلاً ومرهوناً بعدد كبير من المتغيرات. وهذا لا يعني بالضرورة أنه أمر سيئ، ولكنه يدعو إلى الحذر. أما ما وضعته تركيا على الطاولة فهو أكثر وضوحاً؛ حتى أننا شهدنا خطوات ملموسة وقابلة للتوقيع في ملفات مثل الطاقة والدفاع.
ما لم يُناقش على متن الطائرة وعرض بهجلي المتكرر
من يطالع الحوار الذي أجراه الرئيس على متن الطائرة في رحلة العودة مع الصحفيين، سيشعر أنّ الأجواء اتسمت بما يمكن وصفه بـ الهدوء الإعلامي. لكن النصوص لا تُقرأ بما تحويه فقط، بل أيضًا بما تُغفله. وغياب الحديث عن ملفات كبرى مثل الطاقة أو سوريا أو حتى الطائرات، أو الاكتفاء بالإشارة إليها، قد يثير لديك شعورًا بوجود "شيء غريب" في هذا اللقاء الذي وصفه الطرفان بأنه "جيد جداً".
ولكن لا ينبغي أن يثير ذلك قلقكم.
القضية هي أن تركيا تتبنى موقفاً فيما يتعلق بالقضايا الحاسمة في هذا التقارب الدافئ مفاده: "دعوا الولايات المتحدة تنفذ وعودها أولاً، ولنرَ النتائج، وبعد ذلك لكل حادث حديث"، ومن الواضح أن تركيا لم تنجرف وراء الجو الساحر الذي خلقته الزيارة، وهذا موقف سليم للغاية. فالثقة تُكتسب عند تحققها على أرض الواقع.
أخيراً، فإن إعادة طرح دولت بهجلي في ختام الزيارة لمقترح"محور روسيا والصين وتركيا" بالغ الأهمية. علينا أن نأخذ على محمل الجد هذه المبادرة التي بدت تكتيكية عند بداية الزيارة، وخصوصاً مع وضع حلف الناتو طرفا أساسيا فيها.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!