أرسين جليك - يني شفق (26/09/2025)

في الليلة الخامسة من إبحارنا في البحر الأبيض المتوسط، شقّ سكون المياه حركة غير مألوفة. فعند اقترابنا من مشارف جزيرة كريت، ظهر في السماء سربٌ من الطائرات المسيّرة تجاوز عددها العشرين، لتحاصر أسطولنا جوًا. عندها أدركنا أن هذه الليلة لن تكون كسابقاتها.

كنت قد علمت بموعد نوبة حراستي الليلية، وكنت أستعد للنوم على أن أكون على سطح السفينة قبيل الفجر، وبينما كنت أستلقي على السرير، وصلني إشعار على هاتفي يفيد برصد طائرات مسيّرة فوقنا. وقيل في الرسالة: "هذه المرة أعدادها كبيرة جدًا"، وقد أُعلن حالة التأهب القصوى للأسطول. اتصلت بي زوجتي نورية فور علمها، حيث إنها ضمن الفريق الداعم للأسطول برا. أخبرتها أن هذا وضع متوقع وأغلقت الهاتف. لقد كنا تحت المراقبة منذ يومين.

وما إن أعلنت الحسابات الرسمية لأسطول الصمود خبر الحصار الجوي، حتى ثار الرأي العام التركي.

أما نحن على متن السفن، فقد دخلنا في حالة استنفار قصوى. وفي غضون ثوانٍ طبقنا الإجراءات الأمنية التي تدربنا عليها مراراً في السابق، لم يصعد إلى السطح سوى الحراس، فيما ارتدينا نحن سترات النجاة وبقينا في الأجزاء السفلية.

وكانت المعلومات المتدفقة عبر منصة التواصل المشتركة لنحو 600 ناشط ضمن الأسطول المكون من قرابة خمسين قاربًا، تشير إلى تصاعد التوتر. وفي الساعة 01:12 أرسلت الناشطة التركية ديليك تيكوجاك رسالةً من سفينتها تقول: “لمحنا وميضًا مفاجئًا… هناك عدد كبير من الطائرات المسيرة.” تلتها أخبار عن العثور على مواد مجهولة تنبعث منها رائحة بارود فوق سطح قاربين. وعقب هذه الرسالة مباشرة دوّى انفجار قريب منا، فارتسم في ذهني مشهد التفجير الذي استهدف قوارب قافلة برشلونة في تونس، غير أن الفارق هذه المرة أنّنا لسنا في خليج محمي، بل في عرض البحر، بلا أي وسيلة للدفاع.

ولم يمض وقت طويل حتى أصبحت القوارب هدفًا مباشرًا. ومع دوي انفجار ثانٍ، وردت الرسالة التالية على المنصة: "لقد ألقوا قنبلة فوق قاربنا." ورغم أن التقارير الأولية أفادت بعدم وقوع إصابات، إلا أن استمرار الهجمات كان واضحًا. وبالفعل، أكدت السيدة "سما نور سونمز يامان" أن قاربهم، –الذي يضم برلمانيين إيطاليين– قد تعرّض أيضاً لهجوم. في تلك اللحظة، أدركت أن الجميع كانوا يهتمون بسلامة بعضهم البعض، لكن لم يُبدِ أحد خوفاً. بل إن أحاديثنا على منصّات التواصل لم تخلُ من روح الدعابة، وكان السؤال المتكرر: "أما من حجر نرميه؟"

أثناء ذلك أجريتُ بثًا مباشرًا على قناة يني شفق الإخبارية، ونقلتُ أولى المعلومات لتركيا: "نحن نتعرض للهجوم، لكننا هادئون وصامدون".

لم تمضِ عشر دقائق على بثّي حتى دوى صوت انفجارٍ هزّ القسم السفلي من قاربنا حتى قفزنا من أماكننا. لقد انفجرت قنبلة فوق رؤوسنا مباشرة. في تلك اللحظة ألقى اثنان من البحّارة أنفسهما أرضًا. صعدنا فورًا إلى السطح. بينما كان الأستاذ الدكتور حشمت يازيجي طبيب الأنف والأذن والحنجرة يعتني بهما، كان بحارتنا قلقين بشأن الشراع الرئيسي الذي تضرر. كانوا بحال جيدة، لكن شراعنا احترق. وبشجاعة كبيرة، قاموا بإنزال الشراع وجمعه بسرعة. وعندما نزلنا إلى الأسفل، كان الجميع يبتسم ويهنئ بحارتنا.

وقبل بزوغ الفجر بساعتين، وقع 12 انفجارًا واستُهدفت 9 قوارب. والحمد لله لم يصب أحد بأذى. وتضررت أشرعة قارب آخر غير قاربنا. ومع بزوغ الصباح، كنا على سطح قاربنا بعد ساعات قليلة من النوم. أُزيل الشراع المتضرر، وشُدّت الأشرعة الأخرى. بدأتُ عملي وأنا أشاهد جبال كريت، وهي اليابسة الوحيدة التي رأيناها بعد أيام. قضيت يومي أمس في إبلاغ المراكز الإخبارية والأصدقاء القلقين عما حدث ليلاً.

كان لمنظمي الهجوم هدف واحد: إخافتنا، وبث الذعر، وإجبارنا على التراجع عن مسارنا. كان الموقع الذي انفجرت فيه القنابل فوقنا هو أقرب ممر بحري إلى اليابسة على طريق غزة. لقد كانت إسرائيل تهدف بهذا الهجوم، إلى تخويف النشطاء وإجبارهم على النزول من القوارب في أقرب نقطة من البر، وبالتالي تفكيك الأسطول. لكن الهجوم جاء بنتيجة عكسية؛ لقد زاد من عزمنا وتصميمنا. في تلك الليلة، وفي المياه الدولية وتحديدًا ضمن منطقة مسؤولية البحث والإنقاذ اليونانية، لم تهاجم هذه القوة الخارجة عن القانون والمعروفة هويتها قواربنا فحسب، بل إرادتنا أيضًا. لكننا رددنا على كل انفجار وكل اعتداء بعزيمة متزايدة، وليس بالخوف. لم نفكّر في النزول بل زادنا اندفاعًا من الخجل من إخفاقنا في الوصول مبكرًا. ما احترق على السطح كانت الأشرعة، وليس أملنا؛ هم يهاجموننا بالقنابل ونحن نرد مازحين في مجموعاتنا: «أليس عندكم حجر؟».

كنا نتبادل المزاح لأننا كنا ندرك أن أفضل رد على هذه القوة الوحشية التي تستهين بكرامة الإنسان هو المضي قدمًا دون تردد. ورغم أننا لا نعلم ما يخبئه لنا الليل، فإننا لن نحيد عن طريقنا.

سجل الربان: وقعت الانفجارات خلفي تماماً

الأربعاء 24 سبتمبر. الساعة 07:37 صباحاً. مسارنا 93 درجة شرقاً. سرعتنا 3.53 عقدة. اتجاه الرياح 170 درجة تقريبا. أي أن الرياح تأتي من الخلف مباشرة. الرياح شبه معدومة، أقل من عقدة واحدة. وارتفاع الموج نصف متر. كانت الليلة الماضية ليلة عصيبة. واجهنا نحو عشرين هجوماً بالطائرات المسيرة. استهدفوا العديد من القوارب. وتعرض قاربنا لهجوم مرتين، بعض القوارب تعرضت لهجوم واحد والأخرى لاثنين. لقد فجروا قنبلة صوتية خلفي مباشرة، على بعد متر ونصف أو مترين منّي على سطح السفينة. بالطبع، كان صوتها شديدًا وخلّف وهجًا ضوئيًا في الظلام. قدر الله وما شاء فعل. سنواصل مسيرنا. في أمان الله.

من رسائلكم:

هوليا توتال تشوبان: «أسأل الله أن يعينكم ويسهل دربكم، ولا يمكن أعداءكم منكم، ويبلِّغكم العودة سالمين إن شاء الله، هناك قلوب صغيرة تترقب مسيركم، وآلاف الأبرياء ينتظرون وصولكم بفارغ الصبر.»

نرمين أتولي: «يا رب، احفظ إخواننا الذين شقوا طريقهم في البحر. اكفهم شرّ الأعداء والرياح وكلّ بلاء. اجعل نياتهم خالصة، وخطواتهم مباركة. تقبّل مسعاهم في سبيل تحرير القدس وغزّة وكلّ المظلومين. أنزل عليهم نصرك، وأتمم رحلتهم بسلام، واجعل عودتهم نصراً وبشرى. آمين.»

الكاتب التركي يوثق في مقاله ليلة هجوم الطائرات المسيّرة الذي استهدف أسطول الصمود بالقرب من كريت، مؤكداً أن الهدف كان إثارة الذعر ودفع النشطاء للنزول لـ تفكيك الأسطول، ومشيرا إلى أنه رغم الانفجارات والأضرار لم تؤدِ الهجمات إلا إلى زيادة تصميم النشطاء على مواصلة رحلتهم نحو غزة، ورغم الانفجارات والأضرار، فإن الهجوم زاد من عزيمة النشطاء و"إرادة الإنسانية" على المضي قدماً نحو غزة.

عن الكاتب

أرسين جليك

كاتب وصحفي تركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!