
ترك برس
تناول تقرير والسياسي التركي ياسين أقطاي، مسار التحول الذي شهدته تركيا خلال عام واحد منذ دعوة رئيس حزب الحركة القومية دولت بهجلي، لزعيم تنظيم حزب العمال الكردستاني المحظور عبد الله أوجلان، وما رافق ذلك من تغييرات جذرية في المشهدين السوري والتركي.
يسلّط التقرير الضوء على انهيار نظام الأسد وصعود نظام سوري جديد بمواقف مغايرة تجاه الأكراد، وعلى تراجع مبررات العنف بعد إعلان انسحاب مقاتلي "البي كي كي" من تركيا. كما يناقش أبعاد الندوة التي عقدت في ديار بكر حول "المستقبل المشترك"، حيث أُعيد تعريف القضية الكردية باعتبارها أزمة ناتجة عن النظام القومي لا عن الأكراد أنفسهم.
ويرى الكاتب أن القومية التركية أضرت بالأتراك قبل غيرهم، وأن تجاوز الأزمة ممكن فقط من خلال منظور إسلامي يتجاوز الانقسامات القومية ويؤسس لأفق جديد من الأخوّة والعدالة. وفيما يلي نص التقرير الذي نشرته صحيفة يني شفق:
لقد قُطع شوط طويل في العملية التي بدأت قبل عام بالضبط بدعوة وجهها دولت بهجلي إلى أوجلان في اجتماع كتلة حزبه في البرلمان. وبالتوازي مع هذا التقدم، شهد العالم تغييرات عديدة. فحين أُطلقت تلك الدعوة، كان نظام الأسد الديكتاتوري لا يزال قائماً في سوريا، رغم كل الجرائم التي ارتكبها بحق شعبه من إبادة جماعية وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. بل إنه وبعد حرب استمرت أربعة عشر عاماً، ورغم محاولات إسقاطه بدعمٍ دولي كبير، صمدَ واستعاد مكانته كفاعلٍ وحيد في مستقبل سوريا. لدرجة أن مستقبل سوريا لم يعد يُتصور بدون الأسد حتى بالنسبة لتركيا.
ظهور أفق جديد خلال عام واحد
كان نظام الأسد يشكل أحد الشريانين الرئيسيين اللذين يمدان تنظيم "بي كي كي/بي واي دي" الإرهابي في سوريا بالحياة، إلى جانب الدعم الأمريكي والإسرائيلي. ولكن ما حدث بعد ذلك كان مفاجئًا؛ فبعد شهرٍ ونصف فقط من دعوة بهجلي، انهار النظام الدموي والمجرم في سوريا بشكلٍ غير متوقّع نتيجة الضربة الأخيرة التي وجّهها الشعب السوري بعد حربٍ دامت أربعة عشر عامًا. واليوم نرى في سوريا نظاما مختلفا تماما عن ذاك الذي كان قائمًا قبل عام. إن نظرة هذا النظام الجديد للأكراد، وكذلك موقفه من مسألة وحدة الأراضي السورية، يختلفان جذريًا عن مواقف النظام السابق. فعلى عكس الأسد، الذي كان يرى الأكراد مواطنين من الدرجة الثانية ويستخدمهم كورقة استراتيجية ضد تركيا، ينظر النظام الجديد إليهم كمواطنين متساوين من الدرجة الأولى، ويرفض تمامًا استخدام أي مكوّنٍ من مكوّنات البلاد — سواء الأكراد أو غيرهم — كأداة لإضعاف سوريا وفقًا للمصالح الإسرائيلية. أما خطة تقسيم سوريا إلى أربع مناطق تُخصَّص للأكراد والدروز والعلويين وغيرهم، فهي جزء من استراتيجية إسرائيلية تهدف إلى تفكيك الدولة السورية بما يخدم مصالحها.
ومن الواضح أن الأكراد اليوم يقفون أمام خيارٍ حاسم يتعلق بـ كونهم جزءاً من مخططات إسرائيل أو لا؟ كما أن القضية المطروحة لا تتعلق باستقلال الأكراد أو بحق تقرير مصيرهم.
وفي هذا العام، تعمقت الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة، وتغيرت بالتوازي معها مشاعر العالم وتصوراته وأفكاره تجاه إسرائيل وفلسطين. فاليوم، أصبحت إسرائيل دولة ملعونة، والوقوف بجانبها يعني الحصول على نصيب من هذه اللعنة. ولن ينجو من هذه اللعنة بعض الحكام العرب الذين يواصلون تحالفاتهم مع إسرائيل بشكل أو بآخر، ولا الجهات الفاعلة التي تمهد الطريق للمخططات الإسرائيلية في سوريا وتدعمها.
وفي اليوم الذي أعلن فيه تنظيم "بي كي كي" الإرهابي انسحاب جميع عناصره المسلحة من تركيا كجزء من العملية الجديدة التي بدأت في البلاد، نظمت جمعية " أوزغور-دير" في ديار بكر ندوة بعنوان: "المستقبل المشترك.. الأكراد، والأخوة، والسلم الاجتماعي في تركيا".
وشهد البرنامج تقييمات ومناقشات شاملة للغاية، وشارك فيه كلٌّ من: علي بابير، من حزب مجتمع العدالة الكردستاني، وعضو هيئة التدريس في جامعة موش ألب أرسلان أردال إيكر، ورئيس جامعة ماردين أرتوكلو "إبراهيم أوزقوشار"،والكاتب في مجلة "حق سُوز" حسيب يوكوش، ورئيس فرع نقابة "ميمور سن" في ديار بكر رمضان تكدمير، والرئيس العام لجمعية "أوزغور دَر" رضوان كايا، والكاتب في صحيفة "ستار" وحيد الدين إينجه.
وأكد المشاركون أن جوهر القضية لا يقتصر على "الهوية" أو "الحقوق الثقافية"، بل هو أزمة ذات أبعاد أخلاقية وسياسية وحضارية. وقد أتاحت هذه الرؤية فرصةً لإعادة النظر في كلٍّ من الحدود العلمانية للدولة القومية وتمزق العالم الإسلامي من الداخل.
المشكلة ليست الأكراد بل النظام نفسه
رغم أن الموضوع يُشارع تداوله باسم القضية الكردية، فقد سعيت في كلمتي بالندوة التأكيد على أن هذا التوصيف خاطئ: فالمشكلة في تركيا ليست في الأكراد، بل في النظام نفسه. وهذه المشكلة لا تنبع فقط من القومية التركية، بل من الأيديولوجية القومية التي تخلق هوية تفريقية ومخصصة لكل من الأتراك والأكراد، وتفرض على كل طرف تعريف نفسه بشكل منفصل وفقاً لقواعد النظام القومي.
الأتراك هم أكبر ضحايا النظام
ومن هذا المنظور، يتضح أن الضحية الكبرى للأيديولوجية القومية التي تأسست في تركيا ليست الأكراد أو المجموعات العرقية الأخرى كما يُعتقد، بل الأتراك أنفسهم. والسبب هو أن القومية التركية، التي بدأت تتشكل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، اخترعت في مرحلة متقدمة مفهومًا للـ "التركية" لا يمت بصلة للأتراك، وفرضته عليهم. ولمواكبة هذا النموذج المصطنع للهوية العرقية، كان على الأتراك التخلي عن هويتهم ولغتهم ودينهم وثقافتهم وتاريخهم وذكرياتهم.
وهذا ما حدث بالضبط. واليوم يجب أن يكون الأتراك هم من يتحدث عن الاندماج، وليس الأكراد. فقد تنازل الأتراك عن هويتهم الأصيلة قبل كل شيء، في سبيل مشروع التتريك الذي سار بالتوازي مع مشروع التغريب. إن "التركية" غير الإسلامية التي كانت مستهدفة لا يمكن أن تكون لها أي علاقة بالهوية التركية الأصيلة. إن محاولة فصل التركية، التي امتزجت بالإسلام منذ ألف عام، عن دينها في هذا المسار لم يكن ليُبقي أي شيء من جوهر الهوية التركية. لقد نجحوا لدرجة كبيرة لدى بعض الفئات، لدرجة أن الكثيرين اليوم يعتبروون أنفسهم أتراكاً بهويتهم الغربية، والعلمانية، والعنصرية، رغم أنها لا تمت بصلة للهوية التركية الأصيلة.
وفي وقت لاحق، خلال عملية الاندماج التي ثار ضدها الأكراد، لم يُحاسب أحدٌ قط على الخسائر الفعلية التي تكبدها الأتراك أنفسهم. ولو حدث ذلك، أكان ينبغي اعتباره عزاءً للأكراد، أم تذكيراً لهم بأنهم يتعرضون اليوم لعملية مماثلة في إطار "القومية الكردية"؟ وقد سعت ندوة "أوزغوردر" للإجابة على هذا السؤال أيضًا.
وأوضح علي بابير ـ زعيم حزب مجتمع العدالة الكردستاني ـ في كلمته، أنّ القضية الكردية لا يمكن فهمها بمعزل عن السياق التاريخي.، مذكراً بأن حدود سايكس-بيكو التي رُسمت قبل قرن من الزمان مزقت العالم الإسلامي إرباً. ورأى أن التشتت الذي يعيشه الأكراد اليوم ليس مجرد تقسيم بين أربع دول، بل هو تجلٍ للتمزق الروحي والسياسي للأمة، وأوضح دور الحدود التي فرضها علينا الاستعمار قبل مئة عام في ذلك، مؤكدا أنه لا يمكن التفكير بأي حل حقيقي دون تجاوز هذه الحدود المصطنعة.
القومية الكردية.. سبيل الخلاص في الهجرة من القومية التركية لا تقليدها
لقد دوّنت ملاحظة تلخّص بإيجاز الرؤى الثاقبة التي طرحها كلٌّ من رضوان كايا وحسيب يوكوش ووحيد الدين إنجي، تقول: "القومية فيروسٌ يستعمر عقول الشعوب المظلومة نفسها، والقومية الكردية لا يمكن أن تنجو بتقليد القومية التركية، بل بالتخلي عنها."
وأوضح إبراهيم أوزجوشار أن الإسلاميين، رغم أنهم من المتضررين بالقدر نفسه وربما أكثر بسبب النظام القائم في تركيا، لم يتقاعسوا عن إدراج هذه المسألة ضمن برامجهم الإصلاحية. ومن هذا المنطلق، فإن الخطاب الذي ينتقد الإسلاميين بدعوى أنهم لم يُبدوا اهتمام كافيا بالمسألة الكردية، خطابٌ جائر وغير منصف.
فللإسلاميين تعريفهم الخاص للمشكلة، والسياسة المنبثقة عن هذا التعريف كانت ولا تزال الأقرب عمليًا إلى معالجة القضية الكردية وسائر قضايا حقوق الإنسان في تركيا. والواقع أن الوصول إلى المرحلة الحالية في مسار حلّ القضية الكردية يعود إلى الرؤية السياسية الإسلامية، وقد حقق الإسلاميون ذلك دون انزلاق إلى الخط القومي الكردي، بل أثبتوا عملياً أن حل هذه القضية ممكن فقط من خلال المنهج الإسلامي. وهذا لمن أراد أن يرى الحقيقة.
اليوم، وبعد أربعة عقود أنهكت البلاد، تقف تركيا أمام أفق جديد تماماً؛ إذ لم يعد هناك أي مبرر أو أرضية تستدعي استمرار لغة السلاح. وفي الواقع، فإن العملية التي بدأت بدعوة دولت بهجلي شكّلت، بطريقة أو بأخرى، مبررًا مناسبًا لتنظيم لم يكن أمامه خيار آخر لإغلاق هذا الفصل الدموي من تاريخه. نسأل الله أن يكتب لهذه المرحلة الاستمرار والتمام.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!









