ترك برس

تناول مقال للكاتب والأكاديمي التركي أحمد أويصال، قضية الحوار بين الأجيال في المجتمعات المسلمة في ظل التحولات الاجتماعية والثقافية المتسارعة التي فرضتها العولمة والتطور التكنولوجي والتعليم والهجرة.

ويُبرز أويصال كيف أدى هذا التغيير إلى اتساع الفجوة بين القيم والرؤى لدى الأجيال المختلفة داخل الأسرة الواحدة، مع تراجع دور الأسرة الممتدة وتبدّل الأدوار التقليدية بين الكبار والشباب. كما يسلّط الضوء على أهمية تحويل هذا التنوّع العمري من مصدر صراع إلى مساحة للحوار البنّاء القائم على الاحترام المتبادل وتبادل الخبرات.

ويقترح الكاتب مجموعة من السبل لتعزيز التواصل بين الأجيال، مثل إدماج الأنشطة المشتركة في المدارس، وتنظيم برامج تطوعية ومجتمعية، بما يحقق توازناً بين الأصالة والتجديد ويقوّي التماسك الاجتماعي. وفيما يلي نص المقال الذي نشرته صحيفة الشرق القطرية:

تتسم الثقافة بطابع محافظ يسعى إلى صون النظام الاجتماعي القائم ويقاوم التغيير، إلا أنّ التطور التكنولوجي المتزايد، واتساع الهجرة، وانتشار التعليم، وتأثير العولمة جعلت التحوّل أمرًا حتميًا. وقد أسهمت وتيرة التغير السريعة في المجتمعات المسلمة في تعميق الفجوة في القيم والرؤى بين الأجيال. وفي الوقت ذاته، أدّى تحسن الخدمات الصحية إلى إطالة العمر وازدياد فرص تعايش ثلاثة أو أربعة أجيال ضمن الأسرة الواحدة. لذا، أصبح من الضروري تحويل هذا التنوع العمري من مصدر توتر وصراع إلى مساحة للحوار البنّاء، تُعزَّز فيها قيم الفهم المتبادل والاحترام بين مختلف الأجيال.

يمكن تعريف الحوار بين الأجيال بأنه عملية تبادل مفتوح ومحترم وهادف للتجارب والأفكار والقيم بين أشخاص من فئات عمرية مختلفة، ولا سيما بين الشباب وكبار السن. وفي عالم يتسم بتغيرات سريعة ومتلاحقة، لا يقتصر دور هذا الحوار على تعزيز السلم الاجتماعي، بل يسهم أيضًا في الحفاظ على التراث الثقافي واستمراره. كما يساعد الحوار بين الأجيال على بناء جسور تواصل معرفية وعاطفية وفكرية بين الأفراد من مختلف الأعمار، مما يقوّي الروابط الاجتماعية ويعزز الفهم المتبادل.

في الماضي، كانت الأسرة الممتدة تجمع عدة أجيال تحت سقف واحد، مما أتاح حوارًا وتواصلًا طبيعيًا ومستمرًا بينهم. فالأجداد والجدات كانوا يعيشون مع أحفادهم، الأمر الذي جعل التواصل بينهم أمرًا تلقائيًا، وكانت مكانة الكبار في الأسرة تحظى باحترام كبير، رغم أن الصغار لم يكن لهم غالبًا مجال واسع لإبداء آرائهم. أما اليوم، فمع ابتعاد الأجيال الجديدة عن أسرها للعيش في أماكن مختلفة، تراجع مستوى التفاعل الأسري، وأصبح الأحفاد يرون أجدادهم بشكل أقل، وبالتالي باتوا يستفيدون من خبراتهم وتجاربهم بدرجة أقل مما كان عليه الحال في السابق.

بمرور الوقت تغيرت الأدوار داخل الأسرة بشكل واضح. ففي الماضي كانت الكلمة العليا غالبًا لكبار السن، أما اليوم فينتظر الشباب أن تُحترم خياراتهم وتفضيلاتهم الشخصية. فعلى سبيل المثال، كانت الحماة قديمًا صاحبة النفوذ الأكبر داخل البيت، بينما تميل الكنة في العصر الحالي إلى حياة أكثر استقلالية وحرية. وقد عبّرت إحدى النساء التركيات في منتصف العمر عن هذا التغير بقولها: «يا لسوء حظي؛ صرتُ كنة في زمنٍ كانت فيه الكلمة للحماة، وأصبحتُ حماة في زمن أصبحت فيه الكنة هي صاحبة القرار!»

بدل أن تتحوّل هذه الفوارق بين الأجيال إلى مصدر صدام، فإن توجيهها نحو حوارٍ بنّاء سيكون الخيار الأجدى والأكثر فائدة. ويمكن تحقيق ذلك عبر خلق بيئات يشعر فيها كل جيل بأن رأيه محل تقدير وأن تجربته ذات قيمة، وجمعهم في مساحات مشتركة تسمح بتبادل الخبرات. فعندما يجلس أشخاص من أعمار مختلفة في حوار صادق وعفوي، يكتشفون أن بينهم الكثير من القواسم المشتركة، وأن الطبيعة الإنسانية ثابتة في جوهرها، وأن خبرة الكبار يمكن أن تلتقي بروح الابتكار لدى الشباب لتشكّل رؤية أوسع وأغنى للمستقبل.

من خلال الحوار بين الأجيال، ينقل الكبار قصصهم وتقاليدهم وخبراتهم إلى الشباب، فترتبط المعرفة بالحكمة، بينما يسعى الشباب إلى تقديم أفكار جديدة ضمن إطار القيم الراسخة لتحقيق توازن بين الأصالة والتجديد. ويساعد هذا الحوار على كسر الصور النمطية، فيتجاوز المجتمع فكرة «الكبار الذين لا يعجبهم شيء» و»الشباب غير المحترمين»، مما يعزز التفاهم المتبادل. وفي حين كانت الأسر المسلمة في الماضي ترعى كبارها داخل المنزل، بدأت تظهر في العصر الحديث دور رعاية المسنين، الأمر الذي يجعل من زيارة هذه المراكز وتعزيز التواصل مع كبار السن أمرًا مهمًا. ويمكن لطلاب المدارس الثانوية التطوّع في هذه المرافق لاكتساب الخبرة وتوسيع آفاقهم والمساهمة في دعم كبار السن نفسيًا واجتماعيًا، وبذلك يتحقق جسر تواصل فعّال بين الأجيال.

يُحقق التفاعل بين الأجيال فوائد عاطفية مهمة؛ إذ يشعر كبار السن بقيمة دورهم في المجتمع عندما يُنظر إليهم كأعضاء مؤثرين، مما يعزز ثقتهم بأنفسهم ويخفّض شعورهم بالوحدة. وفي المقابل، يمنح الكبار الشباب خبراتهم وتوجيهاتهم، فيساعدونهم على تجنّب الأخطاء وبناء مستقبل أكثر ثقة واستقرارًا. كما يمكن للأنشطة المشتركة مثل الحدائق المجتمعية، حلقات القراءة، والفرق الموسيقية متعددة الأعمار أن تُسهم في تحسين الصحة النفسية وإقامة علاقات إنسانية عميقة تتجاوز الفوارق العمرية. وتجدر الإشارة إلى أن الحوار بين الأجيال لا يقتصر على الروابط العائلية فقط، بل يمكن أن يشمل مختلف فئات المجتمع ويُمارس في شتى الأوساط الاجتماعية.

يمكن للمدارس والجامعات إدراج الحوار بين الأجيال ومشاريع مشتركة ضمن مناهجها التعليمية. فعلى سبيل المثال، تسهم مهام التاريخ الشفوي، وإعداد شجرة العائلة، وكتابة سير الأقارب في خلق فرص للطلاب للتواصل مع كبار السن والتعرف على حياتهم وتجاربهم، مما يساعد في حفظ القصص التاريخية ونقلها. كما يمكن تنظيم ورش عمل تجمع بين الشباب وكبار السن في أنشطة مشتركة. وبالمثل، تستطيع منظمات المجتمع المدني والإدارات المحلية تنظيم فعاليات تشجع مشاركة جميع الفئات العمرية. ومن شأن المبادرات القائمة على فكرة «أصدقاء الخبرة»، حيث يقوم متطوعون بزيارة أو الاتصال بكبار السن بشكل دوري، أن تعزز الروابط الدائمة بينهم وتسهم في بناء مجتمع أكثر ترابطًا وتسامحًا.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!