ترك برس

تناول مقال للمفكر التركي طه قلينتش، السنة الأولى لسوريا بعد سقوط نظام البعث، في لحظة تاريخية تتقاطع فيها تحديات الإعمار الضخم مع محاولات بناء نظام سياسي جديد قادر على تحقيق الاستقرار. ففي ظل دمار واسع يمتد من حلب إلى دمشق، ومع بنية تحتية منهارة، تعتمد الحكومة الجديدة بقيادة أحمد الشرع على دعم دولي وإقليمي—خاصة من الخليج—لتسريع جهود التعافي الاقتصادي.

يستعرض الكاتب التوازنات الدقيقة التي يسعى الشرع لتحقيقها بين الولايات المتحدة وروسيا، إلى جانب النفوذ السعودي المتنامي وشروطه السياسية والأيديولوجية. كما يناقش مصادر التهديد الداخلي من الدروز والعلويين وقسد، ومحدودية قدرة الإدارة على التعامل معها دون دعم خارجي.

وفي المقابل، يرصد قلينتش حالة الارتياح الشعبي النسبي وثقة قطاعات واسعة بالمرحلة الجديدة، مع الإقرار بأن المستقبل ما يزال محاطًا بالمخاطر، لكنه—كما يرى السوريون—لن يكون أشد ظلامًا من حقبة البعث السابقة. وفيما يلي نص المقال:

مرّ عام كامل على الإطاحة بنظام البعث الدموي والقمعي في سوريا. وقد مكنتنا التطورات المتعددة الأبعاد التي وقعت خلال هذه الفترة من إجراء بعض التوقعات والتعليقات حول الوضع الحالي ومستقبل البلاد.

فالدمار المروع الذي خلفته سنوات الحرب الطويلة التي عانت منها البلاد لا يزال ركاما يجب إزالته. هناك حاجة إلى حملة بناء وإعمار قد تكلف مليارات الدولارات، خاصة في المنطقة الممتدة من حلب جنوباً على طول خط معرة النعمان حمص. وكذلك وسط حلب وضواحي دمشق تعاني من حالة خراب مماثلة. ولا شك أن هذا المشهد ليس مشكلة يمكن للإدارة الجديدة أن تتصدى لها بمفردها. فمحو الآثار المادية للحرب لن يكون ممكناً إلا بتدخل اتحادات دولية وشركات بناء عملاقة. وسيتطلب هذا سنوات من الجهد.

ونظراً لتعطّل خطوط نقل الطاقة والبنية التحتية بالكامل أثناء الحرب، لا تُعدّ سوريا حتى الآن وجهة جاذبة للاستثمار المحلي والأجنبي. ولكن وتيرة الخطوات المتخذة في هذا الصدد سريعة نسبياً، ويعود الفضل في ذلك إلى اتصالات الحكومة الجديدة الوثيقة مع معظم دول العالم من جهة، وإلى اهتمام رؤوس الأموال الخليجية الثرية بسوريا من جهة أخرى. وخلال زياراتي المتعددة إلى سوريا في الفترة الجديدة، لاحظت من خلال تنوع المنتجات على رفوف الأسواق وحدها، علامات واضحة على أن العالم العربي لم يُهمل دمشق.

ويرسم أحمد الشرع، الذي ينتمي إلى عريقة ذات نفوذ في السياسة السورية، صورة براغماتية إلى حد كبير. فمن خلال تطوير العلاقات مع أوروبا والولايات المتحدة، ونجاحه في الحصول على القبول في العالم العربي بأكمله، وخاصة المملكة العربية السعودية، يسرّع الشرع عملية تجاوز المشاكل الأساسية التي تواجهها سوريا. ويبدو أنّ الشرع استعد جيدًا لمنصبه ذهنيًا وجسديًا، فقد فاجأ الجميع انتقاله السريع من العمامة إلى ربطة العنق. ورغم أنه يواجه بعض التذمر داخل قاعدته الشعبية، خصوصًا فيما يتعلق بمسألة الاندماج في النظام الدولي، يبدو أنّ هناك توافقًا عامًا على أنّه لا يمكن لسوريا الخروج من تحدياتها الحالية إلا بتجاوز العقلية "السلفية".

وفي الوقت الحالي، تتمثل العناصر الرئيسية التي تهدد الاستقرار والأمن الداخلي في سوريا في: الدروز الذين تحرضهم إسرائيل في الجنوب، والعلويون المتأثرون بإيران في المنطقة الساحلية الغربية والذين لم يتحرروا من هواجسهم الطائفية، وقسد في الشمال. إن إدارة الشرع ليست في وضع يسمح لها بمحاربة كل هذه الجبهات بمفردها. ولذلك، فهي بحاجة إلى دعم خارجي. على سبيل المثال، كانت صور الحوار الوثيق بين الشرع والرئيس الأمريكي دونالد ترامب في البيت الأبيض تهدف بالكامل إلى تحقيق هذا الغرض. ولكن، تظل مسألة الأثمان التي سيطلبها الأمريكيون مقابل دعمهم السياسي موضع تساؤل كبير. وتنتهج الإدارة السورية الجديدة سياسة التوازن بين موسكو وواشنطن والحفاظ على مسافة متساوية من كلتيهما.

ومن المعروف أن أكبر داعم لأحمد الشرع في العالم العربي هي المملكة العربية السعودية. ففي نظر السعوديين، الشرع هو "ابننا المولود في الرياض". وقد انعكس هذا المنظور في اللغة السياسية من خلال إلقاء السعودية بظلالها على دمشق. فرغم محاولة الشرع اتباع خط مستقل، لا يخفى أن الدعم السعودي لسوريا مرتبط ببعض الأثمان، مثل: عدم التقارب الشديد مع تركيا، وعدم فتح المجال لتنظيمات مثل حماس والإخوان المسلمين في دمشق، وتبني سياسة المصالحة بدلاً من الصدام مع إسرائيل، وتطهير النظام التعليمي واللغة الدينية من الصبغة "الإسلاموية". سنستمر في متابعة كيفية تأثير عمق العلاقات بين دمشق والرياض على تشكيل سوريا الجديدة في كل هذه الملفات.

وفي كل زيارة قمت بها لسوريا بعد سقوط البعث، لاحظت بنفسي حالة الارتياح والاطمئنان التي عمّت أجواء المدن. وكانت ثقة الشعب وحبه لأحمد الشرع وفريقه واضحة للعيان. وأدمج هذا المشهد مع الجملة التي يرددها لي أصدقاؤنا السوريون في كل حديث حول وضع بلدهم ومستقبله، فأختار التصويت لصالح الأمل: "نحن نرى المخاطر والعقبات أيضاً. ولكن لا تقلق، مهما حدث بعد الآن، فلن يكون أسوء من ظلام البعث الحالك الذي خيم علينا لعقود."

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!