محمود عثمان - خاص ترك برس
كما كان متوقعا فقد انتهت مباحثات تشكيل الحكومة الائتلافية بين حزب العدالة والتنمية وحزب الشعب الجمهوري إلى الفشل، وتبين أن عملية الجمع بين حزبين مختلفين - إلى درجة التضاد – كيميائيا ليس بالأمر اليسير. ففي الوقت الذي يعد فيه حزب العدالة والتنمية ما تحقق خلال ثلاثة عشر عاما من حكمه وإدارته للبلاد إنجازا باهرًا وتقدما وازدهارًا على جميع الصعد، يرى حزب الشعب الجمهوري تلك الفترة ضياعًا وتراجعًا وتخريبًا لمؤسسات الدولة يجب إصلاحه، وقد استبق الأخير مباحثات تشكيل الحكومة بإصدار وثيقة سياسية مؤلفة من أربعة عشر مادة جعلها أساسًا يجب أن يبنى عليه أي تفاهم سياسي، معتبرا كل واحدة منها خطًا أحمر لا يمكن تجاوزه أو التنازل عنه.
من ذلك على سبيل المثال لا الحصر مادة كانت واحدة من جملة مواد فرضها العسكر على المرحوم نجم الدين أربكان فيما سمي بقرارات 28 شباط/ فبراير 1996 تتعلق بمرحلة التعليم الأساسي وتنص على إعادة فرض مدة التعليم الأساسي ثماني سنوات متصلة دون انقطاع، الأمر الذي أدى إلى إلغاء المرحلة المتوسطة من مدراس الأئمة والخطباء ودفع الناس للعزوف عنها، والتي كان حزب العدالة والتنمية قد عدلها ليصبح التعليم الأساسي 4 سنوات + 4 سنوات + 4 سنوات إلزامية أيضا.
الفرق بين الرؤيتين تتمركز حول إصرار حزب الشعب الجمهوري على إلغاء المرحلة المتوسطة من مدارس الأئمة والخطباء، وهي أشد المراحل حساسية بالنسبة لهذا النوع من الدراسة لأن تعليم الطالب القرآن واللغة العربية بعد أن يتعدى سن الرابعة عشر من عمره يصبح صعبا جدًا ولا يؤدي الغاية المرجوة. إضافة إلى بعض المواد التي تدل على أن الرؤية السياسية لدى حزب الشعب الجمهوري لم تزل كما هي منذ أيام حكمه في الثلاثينات والأربعينيات كحزب واحد، واستمرت تعاني من مشكلاتها المزمنة مع معتقدات الشعب التركي وتراثه.
طلقة بداية النهاية جاءت من تصريح رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو عندما أعلن أن "المرحلة التي نمر بها بالغة الحساسية، إذ يتوجب علينا وضع رؤية سياسية وبرنامج للحكومة يكفل ترميم مرحلة طويلة من التخريب نالت مؤسسات الدولة ودامت ثلاثة عشر عاما". في إشارة إلى مدة حكم حزب العدالة والتنمية!.
رغم ذلك استمرت المباحثات بين الطرفين وتركزت على عشرة نقاط إشكالية لم يتم تجاوز الخلاف إلا في ثلاث منها، بينما بقيت سبع نقاط رئيسية عصية على الحل والتفاهم، تأتي في مقدمتها السياسة الخارجية حيث الخلاف على أشده في المسألة السورية والمصرية، فبينما تعمل تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية على الإطاحة ببشار الأسد كشرط أساسي لنهاية الأزمة السورية، يصر حزب الشعب الجمهوري على اعتباره رئيسا شرعيًا يجب دعمه ضد الإرهاب، وكذلك الأمر بالنسبة لمصر حيث قام رئيس حزب الشعب الجمهوري بزيارتها عقب الانقلاب معتبرًا سياسة بلاده لا تمثل الشعب التركي! بينما صرح رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان أكثر من مرة بأنه لا يعترف بحكم الانقلابيين في مصر ولا برئاسة عبد الفتاح السيسي.
ومما زاد الطين بلة نتيجة المشاورات الداخلية واستطلاعات الرأي التي قام بها كل من الحزبين في صفوف حزبه، والتي أوصت بعدم تشكيل حكومة ائتلافية مع الطرف الآخر. لذلك رأينا كلاً منهما قد بادر إلى التحضير والاستعداد لمرحلة الانتخابات المبكرة.
رغم كل ما سبق فقد شكلت هذه التجربة الديمقراطية باكورة أداء سياسي متطور راق لم تشهده تركيا من قبل قياسًا بالتجارب السابقة، حيث بدى ذلك واضحا من لهجة رئيسي الحزبين في مؤتمريهما الصحفي الذين عقداهما بشكل منفصل، فقد أشاد كل منهما بالروح الإيجابية والحس الوطني لدى الطرف الآخر، وهذه سابقة لم نكن نشهدها من قبل، حيث كان كيل الاتهامات وتحميل الطرف الآخر جريرة الفشل سائدًا.
لكن هذا لا يعني بحال أن المرحلة القادمة لن تشهد تراشقا سياسياً وإعلاميا بين الطرفين , إذ أن من طبيعة العمل السياسي تبرئة النفس وإنحاء اللائمة على الغير .. من ذلك قول كمال قيليجدار أوغلو بأن تركيا أضاعت فرصة تاريخية بفشل تشكيل الحكومة الائتلافية , حيث سارعت جبهة حزب العدالة والتنمية بالرد بأن الفرصة فعلا ضاعت لكن ليس على تركيا بل على حزب الشعب الجمهوري الذي لا أمل له بالوصول إلى السلطة إلا من خلال الحكومات الائتلافية حيث تتراوح أصواته حول 25% من مجمل أصوات الناخبين وهي نتائج لا تؤهله للوصول للسلطة بمفرده.
عمليًا لا حسابيا كان هناك قبيل مباحثات تشكيل الحكومة الائتلافية ثلاثة خيارات رئيسية:
الخيار الأول: حكومة ائتلافية بين حزب العدالة والتنمية وحزب الشعب الجمهوري، وقد شهدنا البارحة فشل هذا الخيار.
الخيار الثاني: حكومة ائتلافية بين حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية. تبدو حظوظه ضعيفة جدا بالنظر إلى تصريحات دولت بهجلي رئيس حزب الحركة القومي النارية التي تجاوز فيها حدود اللباقة الدبلوماسية، والتي لم تخل من مهاجمة رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان واللعب على وتر إحداث شرخ بينه وبين حزب العدالة والتنمية، من خلال الادعاء بأن رئيس الوزراء وقيادة الحزب لا يملكون من الأمر شيئا، وأنه يتم تسييرهم من طرف الطيب أردوغان بالريموت كونترول بالتحكم عن بعد، مما يعقد الأمور ويجعل حظوظ تشكيل حكومة ائتلافية بين الحزبين شبه مستحيلة.
الخيار الثالث: حكومة أقلية يشكلها حزب العدالة والتنمية أو ربما تستمر الحكومة الحالية بتشكيلتها كما هي بأن يدعمها حزب الحركة القومي بشكل مباشر أو غير مباشر. حيث تشير المعطيات السياسية إلى أن حزب الحركة القومية سيكون مضطرا لتقديم الدعم لحكومة الأقلية، لأن السيناريو الآخر يقضي بتشكيل حكومة برلمانية مؤقتة يتم تعيين وزرائها من نواب البرلمان بحيث يشارك كل حزب بعدد وزراء يتناسب مع حجم تمثيله في البرلمان، وهذا يعني دخول حزب الشعوب الديمقراطي الحكومة بأربعة وزراء على الأقل، كما يعني في الوقت ذاته مشاركة هذا الحزب مع حزب الحركة القومية في حكومة واحدة الأمر الذي يرفضه الأخير رفضًا باتًا قاطعًا ويعدّه خطًا أحمرَ، ولذلك فهو مضطر لدعم حكومة حزب العدالة والتنمية لكن ربما يشترط بعض الاشتراطات حول تاريخ الانتخابات المبكرة وغير ذلك.
ويشير هذا السيناريو إلى إمكانية كسب هذه الحكومة ثقة البرلمان عن طريق وقوف حزب الحركة القومية على الحياد بغيابه عن جلسة التصويت على الثقة، كما فعل قبل فترة وجيزة في عملية انتخاب رئيس البرلمان الحالي حيث غاب عن حضور الجلسة الرابعة من التصويت ليفسح المجال أمام انتخاب عصمت يلماز مرشح حزب العدالة والتنمية، وبذلك يكون قد خرج من الإشكال والإحراج.
أيا كانت الاحتمالات والسيناريوهات فإن تركيا دخلت فعليًا مرحلة الانتخابات المبكرة. مرحلة تكون فيها الكلمة الأخيرة للشعب التركي يقول فيها حكمه النهائي.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس