د.أحمد البرعي - خاص ترك برس

كنا صغاراً على مقاعد الدراسة عندما كان يقص علينا مدرس التاريخ كيف استطاعت جيوش التتار والمغول اجتياح العالم الإسلامي بسهولة متناهية ولا عجب، فقد كان المسلمون في تلك الآونة يقتل بعضهم بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً، ويسفك بعضهم دماء بعض، وتدور بينهم الحروب والصراعات لسفاسف الأمور وأتفه القضايا.

أصدقكم القول، كان يصعب علينا أن نصدق ما يرويه لنا مدرس التاريخ، وكنا نعزّي أنفسنا بالقول إن أعداء أمتنا قد زوّروا تاريخها، وأدخلوا عليه شوائب الدسائس والافتراءات التي لا تمت لحقيقة تاريخنا المشرف، وذلك ليزرعوا فينا بذور الشك ويشعلوا نيران التشكيك في حضارة المسلمين وعظمة تاريخهم.

فكيف لنا أن نصدق وقتها بأن التتري المغولي كان يقول للمسلم العربي انتظرني هنا كي أحضر السيف لأجز به رقبتك، فيبرح الأخير مكانه خوفاً وجزعاً، ليلقى حتفه على يد المعتدي المغولي. كنا نقول وقتها كان بوسعه، على الأقل، أن يهرب، ثم، ألم نكن وقتها نحارب بالسيف، لا بالطائرات والمدافع والدبابات؟! كان بامكانه أن يقاوم مدافعاً عن نفسه وعرضه ولكنه لم يفعل. لماذا؟!

لا تجد عزاءً إلا أن تجنح لإرضاء نفسك التي ترفض مشهد الذلة والمهانة التي عايشها أجدادنا بأن تتهم من سطروا التاريخ بالتحيز والتجني على المسلمين وحضارتهم. ولكن الصدمة الحقيقية نعيشها اليوم واقعاً لا تاريخاً نقرأه بين طيات الكتب، فما ما أشبه اليوم بالبارحة! فتلك نساء وأعراض المسلمين تُسحل وتنتهك في الأراضي المقدسة وقبلة المسلمين الأولى ومسرى نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم، بل وتنشر الصور والمخططات لهدم القبلة الأولى ولا مجيب. يا تُرى لماذا؟!

روى الإمام مسلم رحمه الله عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم. وإن ربي قال لي: يا محمد، إني قضيت قضاءً فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً.."

انقسمت، أو قل قُسّمت، الأمة إلى فسطاطين بل فساطيط يقتل بعضنا بعضاً ويسفك بعضنا دماء بعض، وتتكالب علينا قوى المجوس والروم تنهب ثرواتنا، وتستنزف طاقاتنا، وتبيعنا سلاحها، وتقتلنا بأيدينا وتتلذذ بإشعال نيران الحقد والانتقام والطائفية والعرقية بيننا، ومنا سمّاعون لهم، بل متبعون لأجندتهم، ومنفذون لخططهم.

إذا كنا صغاراً ولم نصدق قصص وحكايات كتب التاريخ فهل يصدق أحفادنا قصصنا وحكاياتنا التي نعيشها اليوم؟! كيف لهم أن يصدقوا ذاك الذي يدعي فضلاً وتاريخاً – لا ننكره - في الكفاح والنضال من أجل فلسطين وهو اليوم يقتل غزتنا ويخنق أهلها بحصار فاق خيال وطموح المحتلين الغاصبين.

إذا كان يصعب علينا نحن أنفسنا أن نصدق ما نشهده بأم أعيننا فهل سيصدق أحفادنا أننا كنا يوماً أغنى الأمم وأثراها وفي ذات الوقت أبأسها وأتعسها؟! هل سيصدقون أننا كنا نملك كل شيء ولا ننتج أي شيء؟! هل سيفهمون أن العرب كانوا أكبر سوق لشراء السلاح وقبلتهم الأولى محتلة، وأقصاهم قد يهدم بين ليلة وضحاها؟ هل سيصدقون أن الغرب يرحب بنا مهاجرين بينما بلاد العرب تغلق حدودها وتتأفف من الدخلاء عليها؟! هل سيصدقون أن اليمن أفقر بلاد المسلمين وجيرانه أغنى بلاد العالم؟! هل سيصدقون أن ليبيا المختار يسافر أبناؤها طلباً للعلاج والتعليم وهي أغنى بلاد العالم؟! هل سيصدقون أن الشام والعراق أضحت خراباً بأيدي من يدعون نسباً لها؟!

لكني أعتقد أنهم سيصدقون أنه كان في عالمنا المظلم رجالاً لا يقبلون الضيم، ولا ينزلون أبداً عند رأي الفسدة، ولا يعطون الدنية في دينهم أو عقيدتهم أو شرعيتهم. ظُلموا ولكن سرعان ما عاد بهم أحرار بلادهم. نعم، كان في دنيانا الظالمة رجالاً يصدعون بالحق وينصرون المظلوم فذا أردوغان تركيا الطيب يستقبل إخوانه من العراق والشام ضيوفاً على أرض الدولة العثمانة، وذا رئيس وزرائه يصدع أمام الأمم المتحدة أن العلم الفلسطيني سيرُفع على مآذن القدس عاجلاً أم آجلاً وسيعود الفلسطينيون لأرضهم ووطنهم مرفوعي الرأس. قد لا يصدق أحفادنا أن كردياً يسمى صلاح الدين – رئيس حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، صلاح الدين ديمرطاش – يلقي خطاباً أما أحفاد صلاح الدين الأيوبي في ألمانيا في قاعة يُرفع فيها كل الأعلام إلا علم الدولة التركية والفلسطينية بينما يرفرق علم دولة الاحتلال الغاصبة أما ناظريه. حُق لأحفادنا أن لا يصدقوا أن أحفاد صلاح الدين وصل بهم الحال إلى هذا الحد، ولكن أمثال هؤلاء لا يمثلون ميراث صلاح الدين، فهذا لا ينتمي لأصل هذه الثقافة العريقة، فهو وغيره ممن تخلوا عن أصولهم وجذورهم لن يتذكرهم التاريخ ولن يقف عندهم كثيراً.

نعم لن يصدق أحفادنا بعض حكاياتنا لأنهم، استشرافاً واستبشاراً مني، سيعيشون حياة عزيزة كريمة كتلك التي عاشها سلفهم الأول بتاريخهم الناصع المشرق، وستكون هذه الحقبة المظلمة من تاريخنا المعاصر صفحة تُطوى كغيرها من صفحات التاريخ المظلمة التي نسيت فيه أمتنا أصلها فتاهت وغابت وغيبت عن المساهمة في بناء حضارة كنا يوماً روادها.

عن الكاتب

د.أحمد البرعي

باحث ومحاضر في قسم الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة أيدن


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس