د. أحمد البرعي - هافنغتون بوست
أنهى "الخوجة" أحمد داود أغلو، رئيس وزراء الجمهورية التركية، ورئيس حزب العدالة والتنمية الحاكم، برحيله عن السلطة، حقبة حرجة في تاريخ السياسة التركية. إن أحداً لم يكن ليتوقع أن ينتهي دور أحد أكبر منظري السياسة الخارجية التركية بهذه الطريقة، فهو الذي سجل في فترة عمله في السلك السياسي والدبلوماسي التركي، قفزات من النجاحات المتعاقبة سواء في عمله كمستشار لرئيس الجمهورية، أو كوزير للخارجية أو كرئيس للوزراء.
صحيح أن بعض الإشاعات والتسريبات كانت تتحدث عن أن هناك اختلافات في وجهات النظر بين الرجلين الأكثر قوة في الساحة التركية، إلا أن أكثر المحللين تشاؤماً ما كان يعتقد أن هذا الفراق سيحدث في هذ الوقت بالذات، ولا بهذه الطريقة، والتي ما من شك ستؤثر نسبياً بالسلب على استحقاقات المرحلة القادمة.
في خطوة غير مسبوقة في تاريخ الديمقراطية التركية، يتنحى رئيس وزراء الحكومة بكامل إرادته، معاتباً قيادات حزبه ورفيق دربه "لقد أراد الرئيس أن يكون خليفته رئيس وزراء قوي، وزعيم حزب مستقل، وقد حاولت أن أمتثل لتلك الإرادة. يشهد شعبنا أنني عملت بتلك النصيحة واجتهدت ليلاً ونهاراً لأخدم أبناء شعبي وحزبي على أكمل وجه ولا أشعر بأي تقصير في أي مكان عملت به".
يُجمع المحللون على أن أسباب الصراع التي أدت لهذا الرحيل المفاجئ، تتبلور في نقطتين أساسيتين، الأولى هي دستور انقلاب عام 1982 والذي يمنح رئيس الجمهورية صلاحيات تتداخل وتتقاطع مع صلاحيات رئيس الوزراء، مما قد يؤدي لصراع الاختصاصات. ولذلك كان حلم أردوغان الأكبر أن يفوز العدالة والتنمية بأغلبية برلمانية تمكنه من تعديل الدستور القديم، وتغيير النظام البرلماني المعمول به حالياً في تركيا إلى نظام رئاسي ليتحاشى مثل هذه الصدامات بين الحكومة والرئاسة، وخاصة أنه أعلنها مبكراً "لن أكون رئيساً اعتيادياً"
أما المشكلة الثانية فهي صراع النفوذ داخل أروقة حزب العدالة والتنمية، إذ إنه من نافلة القول، إن أردوغان بكاريزمته وطبيعة شخصيته القيادية، كان يرغب في أن يبقى صاحب الكلمة المسموعة، وأن يُستشار كمرجعية للحزب الذي أسسه، وإن ابتعد عنه تنظيمياً، بينما لم يقبل داود أوغلو أن يبقى مجرد ظل لأردوغان، ولذا سعى لأن ينتزع صلاحيات كفلها له الدستور، فكانت النتيجة الخلاف والاختلاف ومن ثم الرحيل.
اختلف الرجلان في آلية اختيار قيادات الحزب الفرعية، والتي كانت من صلاحيات رئيس الحزب، وهو الجهة التي كانت مخولة لمدة 14 عاماً بتعيين تلك القيادات، ولكن قيادات في حزب العدالة والتنمية مقربة من الرئيس أردوغان قررت نزع سلطة التعيين تلك وإيكالها للهيئة العليا في الحزب، وهي المقربة بطبيعة الحال من الطيب أردوغان.
المهم في الأمر هو أن تداعيات رحيل رئيس الوزراء التركي ستبدأ مباشرة في مؤتمر حزب العدالة والتنمية الاستثنائي، والذي سيُعقد في الثاني والعشرين من شهر مايو/أيار الجاري، وسيكون تشكيل مجلس الوزراء الجديد هو التحدي الأول أمام الحزب، لأن ذلك المجلس سيحمل على عاتقيه تحديد الأداء السياسي والاقتصادي في مرحلة هي الأشد خطورة.
ففي الجانب الاقتصادي، والذي يشغل بال الناخب التركي أكثر من غيره، لا يزال الجناح المقرب من أردوغان يرغب في تطبيق برامج وسياسات مالية تهدف إلى تخفيض أسعار الفائدة، ومحاربة لوبي الأموال والفوائد. أما الفريق الآخر المقرب من رئيس الوزراء داود أغلو، كـ علي باباجان، نائب رئيس الوزراء السابق ومهندس النهضة الاقتصادية التركية، وكذا النائب الحالي ووزير المالية السابق، محمت شيمشك، يتبنى أجندات إصلاحية تُعلي من استقلالية البنك المركزي في تحديد نسبة الفائدة. ولكن هذا الجانب لن يكون التحدي الأصعب أمام الحكومة القادمة كذلك التحدي في الجانب السياسي.
فالمجلس الجديد سيحدد بوصلة السياسة الخارجية التركية وتوجهاتها، وخاصة فيما يتعلق بالعلاقة مع أوروبا في ضوء التطورات المتلاحقة من توقيع اتفاقية اللاجئين السوريين بين تركيا ودول الاتحاد الأوروبي، وهي قضية طالما أزعجت الطيب أردوغان، وشكلت نقطة اختلاف رئيسية بين الرجلين. إذ اعتبر أردوغان أن داود أغلو احتكر المفاوضات مع الأوروبيين دون استشارته والرجوع إليه للمشاركة في اتخاذ القرار، وهو الأمر الذي دفع أردوغان مباشرة إلى التصريح برفضه للعروض الأوروبية، وقوله صراحة لدول الاتحاد الأوروبي "أنتم ذهبتم في طريق ونحن ذهبنا في طريق مغاير".
رفض الرئيس التركي طلباً أوروبياً بتعديل قانون مكافحة الإرهاب مقابل إعفاء الأتراك من تأشيرات الدخول لأوروبا، وقال في إحدى خطاباته الجماهيرية "فليمنعوا الإرهاب- يقصد أنصار حزب العمال الكردستاني- من أن ينصب خيامه أمام برلماناتهم أولاً قبل أن يطالبوننا بتعديل قوانينا، هم في جهة ونحن في جهة أخرى".
لا شك أن تصريحات أردوغان وسياساته الخارجية ستجعل مهمة الحكومة التركية القادمة أصعب، إذ إنها ستثير على الأرجح مخاوف فشل بعض الاتفاقات الموقعة بين الأتراك وأوروبا بخصوص اللاجئين، وسينعكس ذلك سلباً على اتفاق يُعفى بموجبه الأتراك من الحصول على تأشيرات لدخول دول الاتحاد الأوروبي.
وتبقى المهمة الأصعب والأكثر إحراجاً لأي رئيس وزراء تركي قادم هي، أنه شاء أم أبى، قد وضع نفسه في خانة التابع لظل رئيس الجمهورية، ولن يستطيع بحال أن يتخذ أي قرارات دون الرجوع للرئيس، وسيكون ذلك أكثر إحراجاً إنْ فشل النظام السياسي التركي في تعديل الدستور القديم، والمضي قدماً بتركيا بنظام رئاسي واضح المعالم، يحظى بقبول شعبي ومباركة الأغلبية النيابية، وهذا ما قد يصعب تحقيقه في ظل المعطيات والتطورات الأخيرة.
ولذلك يبدو من المرجح أن يذهب أردوغان لانتخابات نيابية مبكرة، سيعول فيها كثيراً على أن يكسب أصوات أكثر من أنصار الحزبين القوميين الكردي "حزب الشعوب الديمقراطي" والتركي "حزب الحركة القومية" إذ إن كليهما تعرض لهزات قوية عقب نتائج الانتخابات الأخيرة والتطورات الميدانية، أفقدته الكثير من شعبيته، وهو ما يجعل فرص تخطيهما للعتبة الانتخابية صعباً جداً في حال ذهبت تركيا لانتخابات مبكرة.
ولذلك من المتوقع أن تعيش تركيا مرحلة من الارتباك السياسي لعدة أشهر قادمة، إلى أن حدث وذهب أردوغان لاستفتاء الشعب على الدستور الجديد، ولكن لينجح في القيام بذلك يحتاج إلى أن يمتلك 330 مقعداً في البرلمان تخوله الذهاب لاستفتاء دون العودة للبرلمان، وهو ما لا يمتلكه الآن، فعدد مقاعد حزب العدالة والتنمية 317 مقعداً فقط، وإن لم يستطع أن يكمل هذه الثلاثة عشر مقعداً الناقصة بإقناع بعض أعضاء البرلمان عن أحزاب المعارضة، فسيكون أمامه الخيار الثاني وهو الانتخابات المبكرة.
التحدي الذي سيواجهه أردوغان في تلك الانتخابات إن حدثت، هو حتمية الحصول على ثلثي مقاعد البرلمان أي 367 صوتاً، وهو ما قد ينجح به معتمداً على تراجع شعبية أحزاب المعارضة القومية، التي قد لا تستطيع تخطي عتبة 10%، إذ إنها في الانتخابات الأخيرة بالكاد استطاعت أن تتخطاها، وبذلك يضمن حصوله على المقاعد التي يحتاجها، ويستطيع حينئذ أن يعدل الدستور بأريحية تامة.
لا شك أن في الأمر مخاطرة عالية، وخاصة في حال فشل أردوغان في أن يحصل على نظام رئاسي بانتخابات أو باستفتاء، وهو أمر ليس مستبعداً وخاصة في ظل التغيرات الأخيرة المتمثلة برحيل "الهوجا"، وأيضاً لأن مزايا النظام الرئاسي نفسه ليست بذلك الوضوح بين كثير من الناخبين الأتراك، إذ اعترى التسويق للنظام الرئيسي فشل في التواصل مع الرأي العام التركي.
في النهاية، يقال إن ثعلب السياسة التركية الطيب أردوغان، هو أفضل من يقرأ الشارع التركي، وسجله في المخاطرات والمراهنات حافل بقراءات وفراسات ناجحة، ويشهد له أقرانه ومعاونوه بسداد الرأي وقدرة قراءة المستقبل، فهل سيحسن قراءة الواقع هذه المرة وسيرسو بالسفينة التركية على شواطئ النظام الرئاسي أم أن الأيام القادمة ستكشف عن بدائل وربما تصدعات داخل العدالة والتنمية؟
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس