د. الزبير خلف الله/ المركز العربي التركي للتفكير الحضاري - خاص ترك برس
كنت أشاهد اليوم استعراضا عسكريا في شارع الوطن بمدينة إسطنبول بمناسبة احتفال الشعب التركي بعيد النصر الثاني والتسعين، فانتابني شعور غريب، وتتداخلت مفارقات عجيبة، وتشابكت رمزيات متناقضة في ذهني وأنا أشاهد هذا العرض العسكري الرائع.
مفارقات عجيبة أن يقوم الجيش التركي باستعراضه في أكبر شارع في إسطنبول أسسه الرئيس التركي الراحل عدنان مندريس الذي انقلب عليه الجيش التركي سنة 1963، وأعدموه ظلما وبهتانا لمجرد أنه حاول أن يخترق مبادئ الجمهورية الكمالية التي قطعت بشكل مباشر مع كل موروث حضاري وثقافي وقيمي للشعب التركي المسلم.
عدنان مندريس الذي كان له الفضل في إعادة الاذان باللغة العربية بعد أن ألغاه مؤسس الجمهورية الكمالية مصطفى كمال الملقب بأبي الأتراك لمدة 18 عاما. عدنان مندريس باني أول تجربة ديمقراطية، ومؤسس شارع الوطن الذي يقام عليه الاستعراض، هو من فتح معاهد الائمة والخطباء التي تخرج منها رجل سيكون في المستقبل امتدادا للمشروع المندراسي، ويصلح ما أفسده العكسر على مدار 80 عاما. إنه رجب طيب أردوغان الذي نجح منذ توليه السلطة سنة 2002 وعلى مدار 12 عاما أن يعيد بناء هذه المؤسسة العسكرية، ويخرجها من دائرة التدخل في السياسة والانقلاب على خيارات الشعب الى فضاء أوسع يجعل منها مؤسسة إيجابية تقف مساندة لخيارات الشعب، وتحمي العملية الديمقراطية.
مشهد تقشعر منه القلوب، وترتجف الذكريات وأنت ترى كيف أن هذا الجيش الذي عاث فسادا في تركيا، وقتل خيرة أبنائها، واغتال التجربة الديمقراطية في مهدها، وقام باستئصال كل محاولات الاصلاح السياسي، تراه اليوم يقف شامخا والشعب يحييه ويلقي إليه الورود حبا فيه لا كرها ولا خوفا منه. لقد نجح أردوغان وحزبه في تحييد هذا الجيش، وأعادوه الى الثكنات بعد أن قاموا بمحاكمة كل الجنرالات الذين تورطوا في الانقلابات وأساؤوا الى الديمقراطية واغتالوا خيارات الشعب التركي.
كنت أشاهد العرض وفي عقلي مقاربات ومقارنات تتزاحم في ذهني وشريط إبادة الأبرياء من النساء والأطفال والأحرار في ميدان رابعة والنهضة قلب القاهرة لا زال ينزف في أعماق ذاكرتي، وأصوات المظلومين والمقهورين لا زالت تترد في ذهني وهي تئن تحت رصاص الجيش المصري الذي يقتل الأبرياء، ويحرق الأجساد، ويغتصب النساء والفتيات الطاهرات.
مقارنات عجيبة تهز أعماقي وأنا أشاهد كيف نجحت الإرادة السياسية في تركيا بذكائها وحنكتها في تحييد دولة العسكر في تركيا وتصفية كل المتآمرين فيها والقدرة على صياغة عقيدة جديدة للجيش التركي حتى أصبح الان من أقوى جيوش العالم تسلحا وتصنيعا للسلاح. لقد تحولت تركيا التي كانت تستورد السلاح من دول الغرب الى دولة تصنع السلاح وتصدره الى دول الغرب نفسها.
مفارقات عجيبة وأنت ترى الجيش السوري الذي انقلب على الشعب في الستينات وراح ضحيته آلاف الأبرياء يقتل أبناء الشعب السوري ويمطره بالبراميل المتفجرة ويحرقه لمجرد أنه ثار على الظلم والقمع والاستبداد وطالب بالحرية والديمقراطية والكرامة.
مفارقة عجيبة وأنت ترى تركيا التي شبعت انقلابات كيف نجحت النخبة السياسية فيها في جعل المؤسسة العسكرية خادمة للشعب لا قامعة له، وحامية للديمقراطية لا منقلبة عليها في الوقت الذي ترى فيه الجيوش العربية تتآمر على الأمة وتصادر قرارها واختيارها مثلما رأينا في التسعينات في الجزائر، بل وصل الأمر ببعض جيوشنا إلى التحالف مع أعداء الأمة من الصهاينة ويحاصرون غزة ليقتلوا شعبها الصامد المقاوم، جيوش مهترئة فقدت كل مصداقية وتحولت الى جلاد يذيق الشعوب ويلات القهر والحرمان والظلم و عائقا كبيرا أمام تقدم الشعوب العربية ونهضتها.
مشهد اليوم هزني أنا كما هز الالاف مثلي، وجعلني أقتنع بأن فلاح الشعوب وتقدم الدول لا يكون إلا اذا عاد الجيش الى ثكناته وسخر نفسه لحماية الوطن واحترام خيارات الشعوب، وترك السياسة للسياسيين يبنون الأوطان في كنف التنافس السياسي والديمقراطي النزيه.
عندها انسحبت من مشاهدة العرض العسكري وأنا مثقل بأوجاع الشعوب التي أنهكتها سياط الجلادين ورصاصات العسكر، ولكن ظل في أعماقي ناقوس أمل يدق بأن هذه الدماء النازفة في وطني العربي سيولد منها ربيع أمتنا من جديد، وسنصنع مجدنا ونبني جيوشا تحمي الشعوب لا تقمعها. حلم ممكن تحقيقه لو توفرت إرادة سياسية حقيقية مثلما توفرت في تركيا تلك الإرادة السياسية الفاعلة ممثلة في أردوغان ورفاق دربه الذين نجحوا في إصلاح ما أفسدته ذئاب الكمالية الجشعة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس