مخلص برزق - تركيا بوست
جاءت نتائج الانتخابات البرلمانية في تركيا لتنهي فترة ترقب طويلة حبست الأنفاس وأربكت جميع المراقبين، فترة امتازت بالضبابية وصعوبة التخمين بالمآلات التي ستؤول إليها البلاد، تلك الفترة التي امتدت من السابع من شهر حزيران (يونيو) الماضي إلى الأول من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الحالي يمكن أن تشكل مادة غزيرة جداً لرسائل الماجستير والدكتوراة وأبحاث المراكز المختصة. بل إنني أزعم أن الطريقة التي قادت حزب العدالة والتنمية للفوز الكاسح في الانتخابات البرلمانية الأخيرة تستحق أن تدرس في الجامعات ومراكز الأبحاث. ومن باب أولى أن تستلهمها أحزابنا الإسلامية المتعثرة لتنهض من كبوتها وتتبين مواقع أقدامها..
بعيداً عن المبالغة والوقوع في داء التهويل أو التهوين فإن أهم وأعظم شيء قدمه لنا حزب العدالة والتنمية في تلك التجربة الثرية هو بقاؤه متماسكاً ثابتاً في وجه الزلزال الذي أصابه.
ذاك هو سر فوزه الكاسح في مواجهة ظروف قاسية لم يحسده عليها أحد أبداً، وفي ظل متغيرات وبيئة كانت تدفع به نحو خسارة حتمية، أهونها ألا يتمكن من تشكيل الحكومة بمفرده.
تعالت الأصوات بعيد الهزة المزلزلة التي فاجأت الحزب عقب انتخابات يونيو بأن سبب الهزيمة التي مني بها الحزب هو تولي أحمد داود أوغلو زعامة الحزب، فالكاريزما التي كان يتمتع بها سلفه (أردوغان) أحرقت الكثير من صفاته ومؤهلاته القيادية بزعم الزاعمين، وبدأت السكاكين تقطع من لحمه بلا رحمة، وبدا واضحاً أنه سيتحول إلى مشجب تعلق عليه كل الخطايا والعثرات، وكبش فداء يتم تقديمه قرباناً بين يدي جولة الانتخابات المبكرة.
كان هناك من ينفخ في ذلك ويروج له بجعل ذلك حاجة سياسية ملحة تخص بالدرجة الأولى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، باعتبار أن المنطق كان يقول أنه أكثر المستفيدين من ذلك تكفيراً عن خطئه الكبير بتعيينه خلفاً له في زعامة الحزب الأمر الذي تسبب في تلك الخسارة القاسية.
كان هناك من يروج في الوقت ذاته بأن أردوغان هو الذي تسبب في الخسارة بسبب إصراره على الترويج في دعاية الحزب الانتخابية لموضوع تعديل الدستور الذي يعطيه سلطات تنفيذية أكثر، وهو ما جعل المناكفين له والمعادين يضخمون الأمر ويصورونه بالمستبد الدكتاتوري الذي يسعى لتعبيد الشعب التركي له وإخضاع الجميع لسلطانه. وهذا ما كان يمكن أن يحفز أردوغان للتملص (ولو داخلياً أمام حزبه) برمي الكرة إلى ملعب داود أوغلو أو اللجوء إلى إقالته واستبداله.
كل ذلك لم يحصل، وكان تجديد الثقة من أردوغان بداود أوغلو لقيادة الحزب ورئاسة الحكومة الانتقالية بمثابة صفعة لكل المتربصين، وإشارة داخلية وخارجية بأن ما جرى لم يزعزع الحزب ولم يقوض أركانه.. وأنه لا يتجه نحو التشظي والتشقق كما كان يتمنى البعض.
كانت فرصة أحمد داود أوغلو لإثبات التناغم والانسجام بينه وبين أردوغان في قيادة الحزب في تلك الفترة الحساسة جداً، فجاءت ردود أفعاله وتصريحاته على الأحداث الكبيرة التي شهدتها البلاد متوافقة مع رئيسه، وحرص على مشاركته في العديد من المناسبات ليفقأ أعين الحاقدين الحاسدين.
وهو إلى جانب ذلك أبدى براعة متناهية خلال تفاوضه مع الأحزاب المعارضة لتشكيل حكومة ائتلافية، ومن بعدها الحكومة المؤقتة، فلم تظهر عليه حالة من التشنج أو الانكسار الذليل المصاحبين للهزيمة، ولكنه تعامل بمرونة ملموسة كانت محل رضاً وتقدير من الناخب التركي كونها قدمت المصلحة العامة على المصلحة الخاصة دون أن تتخطَّى واقع النتائج الانتخابية، مرونة تجاوزت محاولة بعض الأحزاب ابتزاز حزب العدالة والتنمية لتقديم تنازلات غير منطقية دلت على انتهازية وقصر نظر وتغليب المصلحة الحزبية على مصلحة الوطن الذي كانت علامات السقم بادية عليه انخفاضاً في سعر صرف الليرة التركية أمام الدولار وتعكر الحالة الأمنية بحوادث إجرامية هزت استقرار البلاد.
استطاع أحمد داود أوغلو أن يدير سياسة متوازنة مزجت بين اللين والشدة وأظهر ثقة كبيرة بتجاوز الأزمة تمكن خلالها بكل براعة من نقل أزمة الحزب إلى الأحزاب المعارضة التي خذلتها تطلعاتها الحزبية وأطماعها الضيقة وكشفتها أمام الناخب التركي كمتصيدين بالماء العكر وفي أحلك الظروف والأوقات، ما جعلهم عرضة لانتقام الشعب ومعاقبته لهم عبر صناديق الاقتراع.
خلال تلك الفترة الحرجة لم يظهر أي تناقض بين أردوغان ورئيس حكومته أوغلو أو أي من منتسبي حزب العدالة والتنمية.. ولم يطلع علينا أحد من شباب الحزب مسفهاً ومشككاً في قيادته، وتمت دراسة أسباب التعثر بهدوء وروية دون ضجة الإقالات وتبادل الاتهامات، وتم ترتيب أوضاع البيت الداخلية للحزب بما يتماشى مع المرحلة المتأزمة داخلياً وإقليمياً. ومضى الحزب نحو يوم الانتخابات دون وجلٍ من الخصوم، يكفيه في ذلك أن صفه الداخلي كان معافى ونسيجه مترابط وبنيانه متين لا شقوق فيه وذلك الذي أتاح له أن يكسر حاجز التوقعات ويحظى بثقة الناخب التركي بأنه القوي الأمين المستحق بجدارة لاستلام الدفة وتوجيهها بأيدٍ متكاتفة لا متنازعة وقلوب متحدة لا متصارعة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس