أنور مالك - الخليج أونلاين
حكام الدول العربية الذين يرفعون شعار الديمقراطية ويزعمون أنهم وصلوا للسلطة عبر الإرادة الشعبية، وجدوا أنفسهم مفضوحين في مرآة تركية بامتياز، وهذا الذي دفعهم إلى الغيرة المضرّة بمستقبل الأوطان من تجربة تركيا في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان.
لقد أعطت تركيا دروسا مجانية وعلى المباشر إلى أدعياء الديمقراطية العرب، يمكن أن يستفيد منها كل من يريد بناء دولة ديمقراطية حقيقية وليست مزيفة على مقاس أحذية الجنرالات، ممن لا يفهون من ممارسة سلطة الشعب سوى تطبيق الإيعازات العسكرية.
الدول العربية التي تزعم أنها ديمقراطية لم نشاهد في تجربتها غير سلوكيات تتنافى مع القيم الديمقراطية أصلاً، فالانتخابات تجدها مزوّرة أو معدّة نتائجها سلفاً لحساب طرف معين؛ وهو حزب السلطة دائماً، والمؤسسات البرلمانية وغيرها، التي تجسّد الديمقراطية، نراها على مقاس الحاكم، والانتخابات الرئاسية لم تصل حتى إلى درجة استفتاء شعبي مصنوع على المقاس والتسعات الأربع المعروفة.
بل الأدهى والأمرُّ من كل ذلك أن الأحزاب هي عبارة عن دكاكين حزبية وتجارية تتلقى الدعم المادي والإعلامي والسياسي من السلطة كي تعارضها في المسموح به فقط، أما في الأصل فهي مجرد تجمعات لدعم مرشح السلطة دائماً.
الانتخابات التعددية تجد كل من ينافسون الحزب الحاكم أو الرئيس هم مجرد أرانب سباق يحاولون إضفاء شرعية للحاكم المترشح والفائز بلا أدنى شك، من خلال تقديم طابع التعددية الشكلية التي يراد تسويقها للغرب.
طبعاً هذا الغرب الذي يحترم حقوق الإنسان والديمقراطية في بلاده فقط حتى وإن زعم أنه رسول الديمقراطية في العالم، بل إنه يستعمل هذه الملفات الحقوقية لتحقيق مكاسبه وحماية مصالحه بالضغط على الدول العربية فقط.
سنعطي بعض النماذج عن دول تدعي الديمقراطية وهي لا علاقة لها بها من قريب أو من بعيد، نذكر على سبيل المثال ما يحدث في الجزائر، فمنذ وصل الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى سدة الحكم وهو ينافس نفسه، ففي 1999 انسحب المترشحون معه عشية الاقتراع بسبب التزوير الممنهج. وفي 2004 كان متسابقون على مقاسه، أما في 2009 بعد تعديل مادة الدستور التي كانت لا تسمح له بالترشح لعهدة ثالثة، تكررت المأساة نفسها.
في 2014 كانت الكارثة الحقيقية، حيث تم ترشيح الرئيس بوتفليقة وهو عاجز صحياً بما يتنافى أصلاً مع القوانين السارية المفعول التي تفرض على المترشح أن يتمتع بصحة كاملة ومتزوجاً من جزائرية، وهذا لم يتوفر في بوتفليقة، بل إن الشهادات الطبية التي قدمت في مسرحية للمجلس الدستوري جاء بها سرّياً من فرنسا، وأثناء الحملة الانتخابية لم يغادر سرير المرض أصلاً، ولم ينطق حتى بكلمة واحدة إلى الشعب الجزائري يطلب منه انتخابه كرئيس لعهدة رابعة.
أما المؤسسات، كالبرلمان، فهي مهزلة حقيقية، فالكفاءات مقصية لمنتهى الإقصاء، ونواب البرلمان هم من الفاسدين ورجال الأعمال أو الذين ليس لهم أدنى قيمة فكرية وسياسية واجتماعية حتى ينالوا شرف تمثيل المواطنين في السلطة التشريعية.
يحدث كل ذلك والجزائر تسمي نفسها بـ "الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية"، والنظام الحاكم يشيد بتجربتها "الديمقراطية" على مدار أكثر من عشرين عاماً، تخللتها ثورة شعبية ثم انتخابات ديمقراطية وبعدها انقلاب عسكري وحرب أهلية دامية سقط فيها ربع مليون مواطن، وانتهى الأمر إلى العبث بالديمقراطية في المشهد الجزائري.
مصر التي كانت الدولة العربية الثانية التي ثار شعبها بعد تونس على نظام حسني مبارك، أسست في فترة زمنية محدودة البعض من الديمقراطية الناشئة، حيث وصل للحكم أول رئيس مدني في تاريخ جمهورية مصر العربية، غير أن ذلك لم يعجب الجيش الذي رسم مخططاً جهنمياً للإطاحة بالرئيس، الشرعي مهما كانت أخطاؤه التي يتهمه بها خصومه، فانقلب الجنرال السيسي على رئيسه ودخلت البلاد في نفق مظلم، وسقطت الأرواح في صراع لن يفيد البلاد والعباد.
حتى الانتخابات التشريعية الأخيرة التي جرت في مصر كانت فضيحة حقيقية؛ فالمشاركة قليلة جداً، والشعب فقد ثقته في كل ما يأتي من الحكومة، وكل ذلك يؤكد أن الديمقراطية تتعرض لانتهاكات على غرار الانتهاكات الأخرى لحقوق الإنسان التي يمارسها نظام عبد الفتاح السيسي منذ وصوله إلى الحكم.
سوريا التي دخلت في ثورة شعبية عارمة، وسرعان ما تحوّلت إلى حرب دامية بسبب الإرهاب الذي مارسه نظام بشار الأسد على السوريين، وأدى لتدمير البلاد وإبادة العباد من أجل البقاء في منصبه. بدورها، في ظل الدماء التي تنزف قام نظام الأسد تحت رعاية إيرانية بتنظيم "انتخابات" رئاسية في بعض المناطق، وللأسف وصفت بالتعددية مع أن الأسد لم يغادر فيها قصره الرئاسي، ثم أعلن بعدها الفوز بأغلبية، وانتهى المأتم "الديمقراطي" في ظل احتلال إيراني ثم روسي للبلاد.
تونس التي ظلت الاستثناء- لحد ما- في مسار ثورات ما سمي بـ "الربيع العربي"، نجحت الثورة المضادة عبر صناديق الاقتراع وبالاتفاق مع قوى كبرى وأخرى في المنطقة، لم يجد حكام تونس حينها سوى الرضوخ لسيناريو ديمقراطي بعض الشيء، من أجل تفادي سيناريوهات انقلابية تدخل البلاد في دوامة من العنف، خاصة أن العالم كله صار يريد وأد حراك الشعوب الذي تمدد في البداية بسرعة فائقة.
الأمثلة كثيرة ومتعددة عن مأساة الديمقراطية في العالم العربي، وخاصة الدول التي تدعي الحكم الديمقراطي وهي المعنية بحديثنا، أما الدول الأخرى التي لها أنظمة مختلفة فلا تعنينا في مقالنا هذا، فهي على الأقل لا تتمسح بالديمقراطية على مرأى الناس وتغتصبها بالدوائر المغلقة في سرايا الحكم وأجهزة الاستخبارات.
لقد جاءت التجربة التركية في وقت نشهد فيه مسخرة حقيقية تحدث باسم الديمقراطية في دول عربية، فالانتخابات البرلمانية الأخيرة لم يتجرّأ حتى المتنافسون المنهزمون في الطعن في شرعيتها، فقد كانت شفافة ونزيهة، وفاز فيها حزب العدالة والتنمية باقتدار كبير لا يرقى له أدنى شك.
لقد جاءت هذه الانتخابات في ظروف غير عادية، أولاً أنها مسبَقة بعد انتخابات سابقة لم يحقق فيها حزب أردوغان أغلبية تسمح له بتشكيل الحكومة، وعرفت الساحة السياسية انسداداً كبيراً أدى إلى ارتدادات اقتصادية لمسها الشعب التركي وعانى منه الكثيرون، والسبب لم يتحمّله الرئيس أردوغان ولا حزبه الحاكم، بل تنازل أكثر مما يمكن تخيله من أجل تشكيل حكومة ائتلافية تحافظ على مسار الإنجازات، غير أن الأحزاب الأخرى أفشلت كل المساعي، وهذا الذي جعلها تخسر الرهان في الانتخابات المسبقة الأخيرة.
أما على مستوى المنطقة فالتطورات المتسارعة على مستوى سوريا جعلت الأنظار تتّجه نحو تركيا التي ظلت تراهن على خيارات، بينها المناطق الآمنة وغير ذلك، كما أن التدخّل الروسي العسكري المعلن أربك الكثير من الحسابات في المنطقة، وغيّر المشهد بلا أدنى شكّ نحو تطورات جعلت دول المنطقة كلها تتحرك ضمن استراتيجية عميقة وحذرة جداً.
أطراف عديدة، خاصة الجملوكيات العربية التي تسمي نفسها بهتاناً "جمهوريات"، وتؤيد أنظمة مستبدة على رأسها نظام بشار الأسد، راهنت في هذه الانتخابات على سقوط حزب العدالة والتنمية، ومنه سقوط أردوغان الذي يعدّ من أبرز المؤيدين للثورة السورية إلى جانب المملكة العربية السعودية ودولة قطر خصوصاً.
في المقابل، جرت انتخابات تركيا في وقت سبقته بقليل انتخابات مصرية من النوع نفسه، فأردوغان مناهض للسيسي، وجاءت النتائج عند الطرفين، حيث إن تجربة تركيا رسّخت الديمقراطية بقيادة مدنية، في حين فضحت تجربة مصر التي يحاولون التسويق لها بأنها ديمقراطية وهي غير ذلك، فلا يمكن أن تنتج الثكنات تجارب ديمقراطية ناجحة، ولو زحفت الشعوب على بطونها لإرضاء العسكر.
بلا أدنى شك أن الديمقراطية التركية التي تسير نحو الأفضل، وسيظل الشعب التركي يختار بكل سيادة من يحكمه ويتقدم بوطنه، حيث إنه منذ وصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة وتركيا تنتقل بخطوات عملاقة من الحسن إلى الأحسن، وهذا يراه المواطن التركي بعينيه ويعيشه في حياته، ولا يهمه ما يقوله المغرضون والمترصدون أو المناوئون لخياراته السيادية.
أذكر في هذا السياق أنني زرت مؤخراً تركيا وكنت برفقة سائق سيارة أجرة، وتحدّثت إليه عن حال بلاده، فأخبرني أنه علماني ومناهض لتوجهات أردوغان الإسلامية، كما وصفها، لكنه في الانتخابات ينتخب حزب العدالة والتنمية، ولما أردت أن أعرف السبب أكد لي أنه منذ وصل أردوغان للحكم وظروفه تغيّرت، حيث إنه قبل ذلك كان لا يستطيع أن يؤمّن مصروف يومه من عمله، ولكن الآن يستطيع تأمين مصاريف شهر في يوم واحد.
وراح يشيد بحال السياحة التي تطورت، والاقتصاد الذي صار ينافس اقتصاديات دول عظمى، وهذا يراه بنفسه ويعيشه في واقعه، ولا يحتاج لفلان أو علان كي يحلله له.
لقد كان سائق التاكسي محقّاً فيما يقوله هو وغيره ممن تحدثت إليهم أثناء زياراتي المتكررة إلى تركيا، حيث إن الأرقام والمؤشرات العالمية تؤكد ذلك، فلقد ارتفعت صادرات تركيا إلى 152 مليار دولار في 2014، وبعدما كانت تركيا تحتل المرتبة 111 من قبل فقد صارت في المرتبة 17، وبين أكبر الدول ذات الاقتصاديات الكبرى، هذه ليست أرقاماً خيالية يصدرها حزب أردوغان لتضليل الشعب كما يجري في العالم العربي، بل هي أرقام رسمية لصندوق النقد الدولي.
ليس بالمستغرب أن يتحوّل أردوغان إلى كابوس لدى أنظمة عربية تدعي الديمقراطية وتقيم الانتخابات الشكلية ولديها تعددية حزبية افتراضية ولكنها في الحقيقة تمارس الاستبداد والفساد بشتى أنواعه، بل إن سياساتها تعود بالوبال على استقرار الأوطان ومستقبلها.
لقد أعطيت الحرية للشعب التركي فاختار الأفضل، وأفضليته ليست بشعارات طارئة لا أساس لها في أرض الواقع، بل إنه يمتلك برنامجاً اقتصادياً ووطنياً لخدمة تركيا وتحويلها إلى دولة عظمى في عام 2023 كما وعد الرئيس أردوغان.
لكن في الجملوكيات العربية التي تسمي نفسها زوراً بالجمهوريات، لن تجد سوى الشعارات المزيفة والكاذبة، ولم نشهد رئيساً عربياً قدّم حصيلته حتى لبرلمان جعله على مقاسه، ولا تمّت محاسبته على وعوده الانتخابية، حيث يطلق ما لا يمكن أن يتقبّله عقل ومنطق، في حين تابعت تجربة حزب العدالة والتنمية ولم أجده يطلق وعداً لم يحققه إلى يومنا هذا، وهذه قمة المسؤولية التي تفتقدها الجملوكيات العربية... وللحديث بقية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس