ولاء خضير - ترك برس
يُعتبر جامع الجزار في مدينة عكّا المحتلة، أحد أهمّ معالم العمارة العثمانية، وأكبر جامعٍ بفلسطين، وأروع وأبدع مظاهر الفنّ الإسلامي في العهد العثماني، الذي بناه والي عكا إبان الخلافة العثمانية، أحمد باشا الجزّار، عام 1781م، فكيف بدأت سيرة والي عكا، وبناؤه للجامع!.
بعد رحيل "ظاهر العمر الزيداني"، أحد أهم حكام فلسطين، برز نجم مغامرٍ عسكريٍ من أصل مملوكي، هو أحمد آغا الجزار، الذي كان مملوكًا بشناقي الأصل، من البوسنة.
وبدأ الجزار سيرته في إسطنبول، ثم انتقل، في سنة 1756م، إلى مصر، حيث عمل في خدمة "علي بك الكبير" كبار مماليك العصر العثماني، ونال رتبة "البكوية" أي الدرجة الأولى فيها، ثم لجأ مع مماليكه إلى بلاد الشام، ودخل في خدمة العثمانيين.
وأصبح حاكم عكا، بفضل مساعدته للسلطان العثماني في إخضاع ظاهر العمر، وعُيّن واليًا على صيدا، كما عُيّن لاحقًا واليًا على دمشق، وقد وصل إلى عكا فاتخذها عاصمة له، وحصّن المدينة بالأسوار، وبنى فيها أكبر مركز تجاري هو مركز الجزار، وأبقى مركزه في عكا المحصنة تحصينًا قويًا.
وقد تميّز حكم الجزار، الذي حكم ساحل فلسطين والشام أكثر من 30 عاما، ولولا وفاته لتولى حكم مصر قبل محمد علي باشا، بسيطرته على القوى المحلية في فلسطين وجبل لبنان، حيث كان واليًا شديد القسوة، وكان لا يخشى في الله لومة لائم في موقفه من المتآمرين على الخلافة العثمانية .
وتوالت على عكا فترات حكم مختلفة؛ حتى حكمها الجزار عام 1776م، وبنى المسجد الذي سمي لاحقا باسمه، وهو يعدّ أجمل جامع في البلاد بعد قبة الصخرة في القدس، كما بنى خان العمدان، والجامع التركي، وأقام مساجد وخانات أخرى وحصّن أسوار المدينة.
وتجدر الإشارة إلى أن الجزار بنى جامعه، على أنقاض جامع "يوم الجمعة"، وكان فاتح عكا القائد المسلم شرحبيل بن حسنة، هو من بنى مسجد "يوم الجمعة"، بعد أن فتحها بعد فتح طبريا، وصلى المسلمون فيه. وبعد أن احتل الصليبيون عكا، أقاموا على أنقاض جامع "يوم الجمعة"، كنيسة "الصليب المقدس" الذي أقيم جامع الجزار فوقها.
وقد أضاف الجزار خلال فترة ولايته الطويلة، الكثير من الإنشاءات في عكا، وعلى رأسها الجامع المسمى باسمه، وعدى عن تحصين المدينة، بإنشاء الأبراج والبوابات الضخمة فيها، كما التفت إلى بناء جيش قوي، ضم الكثيرين من المماليك، والمرتزقة، من البشناق، والألبان، والتركمان، والمغاربة.
الجزّار يصد الحملة الفرنسية
في 8 كانون الثاني/ يناير 1799م، زحف الجيش الفرنسي من مصر، وهدفه احتلال بلاد الشام، وبعد احتلاله العريش، استولى على غزة ثم على أسدود والرملة، ثم وصل إلى يافا، وفرض حصارًا عليها، وراح يقصف أسوارها إلى أن نجح في اقتحامها، وقام بارتكاب مذبحة كبيرة فيها ذهب ضحيتها ما بين 1500 و2000 نسمة.
ثم ارتكب مذبحة أخرى في المدينة، ذهب ضحيتها مئات الأسرى، كان معظمهم من المغاربة والألبان والألبان، وبعد هاتين المجزرتين، والتأخر في دفن القتلى، راح وباء الطاعون القاتل ينتشر في أوساط الجنود الفرنسيين، فمات منهم المئات في الأيام الأولى لانتشاره، كما مات عدد كبير من سكان المدينة.
وبعد سيطرته على حيفا، توجّه الجيش الفرنسي نحو عكا، التي كانت محاطة بأسوار وأبراج وخندق عميق، ويستند المحاصرون فيها إلى دعم سفن خارجية.
وقد باءت كل محاولات الفرنسيين للاستيلاء على عكا بالفشل، واستبسل المقاتلون، وكبدوا الفرنسيين خسائر فادحة خلال حصارهم لها، واضطروا إلى الانسحاب منها، والعودة أدراجهم إلى مصر، بعد حصار دام أربعة وستين يومًا.
وهكذا، استمر الجيش الفرنسي في فلسطين نحو أربعة أشهر، واندحر، وأدّى الجزار دورًا تاريخيًا بوقوفه أمام زحف نابليون على عكا، وإفشال حملته سنة 1799.
ويذكر أن مسجد الجزار بُنِي على طريقة المساجد الفخمة في إسطنبول، لذا يعد أحد أهم مساجد شمال فلسطين المحتلة، لحجمه الكبير، وفنه المعماري الإسلامي الذي تبرز معالمه، وعلو وجمال قبته الخضراء مما جعله قبلة المسلمين في مدينة عكا المحتلة، ويؤمّه العديد من السائحين، ليتمتعوا بجمال وعظمة هذا البناء، ونوعية الكتابة الفاخرة لمختلف الآيات القرآنية التي تحيط بالقسم العلوي من الجدران.
ومن مميّزات هذا الجامع النّادرة بالنسبة لغيره من الجوامع الفلسطينيّة، هو وجود صندوق خاص في داخل المسجد يضمّ زجاج، في داخله شعرةٌ مباركةٌ من ذقن الرّسول، كان السلطان العثماني عبد الحميد الثاني قد أهداها للشيخ أسعد الشقيري، عضو مجلس "المبعوثان" العثماني، وتُعرض الشعرات على المُصلّين لتقبيلها والتبرّك منها مرةً واحدةً في السّنة، وذلك أثناء الاحتفال الكبير الذي كان يُقام داخل الجامع، بمناسبة عيد المولد النّبوي الشّريف.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!