وضاح خنفر - هافينغتون بوست عربي
أردوغان وبوتين قارئان للتاريخ، ولدى كل منهما قناعات تاريخية مستقرة، ظهر ذلك في خطابات الرئيسين وحملاتهما الانتخابية. ولكن ينبغي الحذر من اعتبار التاريخ على أنه المحرك الرئيس للعلاقات بين الدول، ولا سيما الدول ذات المصالح المتشكلة والجغرافيا المستقرة، وفي حالة تركيا وروسيا فلكل من الدولتين ما يجعل العلاقات بينهما محكومة بضرورات الجغرافيا لا مرارات التاريخ.
في السياسة يعتبر استحضار التاريخ أمرا مألوفا، فالرئيس الروسي في حملته عام ٢٠١٢ تحدث عن (روسيا الجديدة) وهو المصطلح الذي أطلقه القيصر الأكثر شهرة في التاريخ الروسي بيتر الأكبر على الأراضي التي ضمها بالقوة لدولته مطلع القرن الثامن عشر، وبذلك حول روسيا إلى إمبراطورية وأطلق على نفسه لقب الإمبراطور بيتر الأكبر.
أما على الجانب التركي، فقد كان البعد التاريخي واضحا في حملة الرئيس التركي وفي خطاباته المتتالية التي تعيد ربط الدولة التركية الحديثة بماضيها السلجوقي والعثماني بعد قطيعة رسمية تاريخية استمرت تسعة عقود.
في كلتا الحالتين فإن استخدام التاريخ يأتي لاعتبارات محلية، تنبع من أن الدولتين تعيشان حالة انتقال في مسارهما السياسي والاجتماعي، بوتين يحاول بناء ما يسميه بروسيا الجديدة، ويحاول حزب العدالة والتنمية التركي بناء ما يسميه (تركيا الجديدة)، ولكن مع فارق جوهري، فروسيا بوتين في الحقيقة ليست جديدة، بل هي روسيا التي تحن إلى الماضي، إذ لا تزال أحلام موسكو التي تتربع على عرش الاتحاد السوفياتي تراود عميل الكي جي بي السابق، الذي اعتبر مرات كثيرة أن انهيار الاتحاد السوفياتي كان أكبر كارثة سياسية في القرن العشرين، ولم ينس بوتين حجم الإهانة التي لحقت بروسيا بعيد انهيار الاتحاد السوفياتي لا سيما في عهد سلفه بوريس يلتسين: انهيار اقتصادي، انفلات أمني، تمرد أقليات وضياع هيبة، وفي محاولات حثيثة يحاول بوتين استعادة بعض هذه الهيبة، كان ذلك واضحا عندما اجتاحت القوات الروسية شمال جورجيا عام ٢٠٠٨، وهو أوضح عندما ضم بوتين القرم وتدخل في شرق أوكرانيا، معتمدا على قانون يلزم الكرملين بحماية الأقليات الروسية أينما وجدت، وهو بالمناسبة ما فعله بيتر الأكبر الذي احتل أوكرانيا وأخضعها للدولة الروسية وتسمى بإمبراطور جميع الروس.
تركيا الجديدة بالمقابل لا تتطلع إلى بناء أمجاد الماضي العثماني، فالدولة التركية مهتمة بمحيطها الحضاري لا للهيمنة عليه عسكريا، بل تحاول التواصل مع تاريخ مشترك كقوة دافعة نحو المستقبل، بعد قطيعة عانى منها المشرق عقودا طويلة، تطورت فيه صورٌ سلبية موروثة بين العرب والترك.
نعود الآن إلى الأزمة الأخيرة بين روسيا وتركيا، ونحاول أن نفهم مدى تأثير التاريخ على تصرف الدولتين، وفيما إذا كان ميل كل من بوتين وأردوغان لاستحضار التاريخ عاملا حاسما في إدارة الأزمة.
بوتين الذي يحتفظ برسم في مكتبه لبيتر الأكبر قد استخدم التاريخ في السنوات الماضية لمنح نظامه شرعية قومية عابرة للزمن، فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي وأيديولوجيته الشيوعية، فهم بوتين أن تاريخ روسيا القيصرية سيكون مصدرا فعالا لبناء شرعية جديدة، وتأكيداً لتميز روسيا وتفردها التاريخي، وذريعة لمحاربة الإصلاحات السياسية والحريات العامة على اعتبار أنها محاولات غربية دخيلة على المجتمع الروسي، تهدف إلى إضعافه واستلاب هويته.
وإلى جانب التوظيف السياسي للتاريخ، فإن بوتين معجب بشخصية بيتر الأكبر، وكثير الاستحضار لها، كما أنه وضع باقة من الزهور على نصب بيتر الأكبر التاريخي في عيد البحرية الروسية في يوليو الماضي، على اعتبار أن بيتر الأكبر كان أول من بنى أسطولا بحريا فعالا لروسيا في البحر الأسود، وَمِمَّا لا شك فيه أن بوتين اضطلع على وصية الإمبراطور بيتر الأكبر التي أوصى فيها أتباعه بالمحاولة المستمرة والدؤوبة للسيطرة على (القسطنطينية ) وعلى المضي في الفتوحات حتى مياه الخليج وشواطئ الهند، معتبرا أن من يسيطر على القسطنطينية يسيطر على العالم..
توصل بيتر الأكبر إلى هذه النتيجة بعد تجربة مريرة وحروب متتالية مع الدولة العثمانية، تحالف خلالها مع الدولة الصفوية ووجه جهوده كلها باتجاه عدوهما العثماني المشترك.
لكن لماذا اعتبر الإمبراطور الروسي الذي جلس على عرش روسيا أكثر من أربعين عاما (١٦٨٢- ١٧٢٥) أن من يسيطر على القسطنطينية يسيطر على العالم؟ هل كان ذلك بسبب التاريخ، على اعتبار الشعور العميق بالمرارة بسبب سقوط (القسطنطينية) عاصمة الأرثوذوكسية في يد المسلمين منتصف القرن الخامس عشر، وهو ما رسخ في العقل الروسي حينها مبدأ (الرسالة الاستثنائية للأمة الروسية) باعتبارها وارثة الراية المسيحية الصحيحة في وجه الغاصبين المسلمين في القسطنطينية والزنادقة الكاثوليك في روما؟
لا أظن ذلك، فبيتر الأكبر كان مشهورا باستخفافه بالكنيسة وهو الذي صادر استقلاليتها وألحقها بالبلاط القيصري، لتصبح دمية في يده، بعدما كانت مرجعا دينيا عالميا ذا رمزية كبيرة.
على الأرجح أن السبب الكامن وراء وصية بيتر الأكبر في أهمية القسطنطينية لم يكن التاريخ بل الجغرافيا.
عندما يطل بوتين على خارطة بلاده الهائلة يشعر بالفخر، فهو رئيس أكبر دول العالم مساحة على الإطلاق، صحيح أن عدد سكان روسيا الاتحادية يبلغ ١٤٤ مليونا، وهو أقل من نصف عدد سكان الولايات المتحدة البالغ ٣٣٣ مليونا، إلا أن مساحة روسيا تزيد على ستة ونصف مليون ميل مربع، أي ما يعادل ضعف مساحة أمريكا.
وكما منحت الجغرافيا روسيا امتدادا وحضورا هائلا يصل القارتين الأوروبية والآسيوية، إلا أن ذات الجغرافيا هي سبب شعور روسيا بالخطر والتهديد الدائم، وهي التي تفسر كثيرا من تصرفات الدولة الروسية وحروبها وانفعالاتها وطموحاتها.
جغرافية الدولة الأكبر في العالم تعاني من عدة مشاكل، من بينها المساحات الهائلة قاسية البيئة والخالية تقريبا من السكان في الشرق، والحدود الروسية المتباعدة صعبة الحماية والسيطرة، إلا أن مشكلتين جوهريتين تشكلان على الدوام العقدة الروسية الاستراتيجية: انكشافها الاستراتيجي تجاه الغرب بسبب غياب موانع جغرافية طبيعية تصد جيوش الغزاة من أوروبا، والمشكلة الثانية الحلم الروسي القديم بالوصول إلى المياه الدافئة في البحر المتوسط والمحيط الهندي.
انكشاف الحدود الروسية مع جوارها الأوروبي الغربي كان سببا دائما لكي تتخذ موسكو استراتيجية الهجوم من أجل الدفاع، وهي الاستراتيجية التي طبقها قياصرة روسيا وزعماء الاتحاد السوفييتي وهي ذات الاستراتيجية التي دفعت بوتين للتدخل في جورجيا وأوكرانيا ومنعهما من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وإلى حلف الناتو، إذ لا يمكن لروسيا أن تقبل بوجود صواريخ الناتو على مرمى حجر من موسكو.
أما العقدة الثانية فإن معظم موانئ روسيا تطل على المحيط المتجمد الشمالي، ولا تعمل في الشتاء بسبب تجمد مياه المحيط، وحاجة روسيا لموانئ مفتوحة على مياه دافئة ضرورة من ضرورات الأمن القومي الدائم، ولعل هذا ما يفسر الصراع التاريخي الكبير حول شبه جزيرة القرم المطلة على البحر الأسود بين الدولة العثمانية وروسيا القيصرية، ولعل هذا ما يفسر مسارعة بوتين لضم القرم العام الماضي للدولة الروسية، فالقرم تمنح روسيا إطلالة على مياه لا تتجمد في الشتاء، وما إن ضُمت القرم حتى سارع بوتين إلى المباشرة في بناء ثمانين سفينة عسكرية وعددا من الغواصات الحربية في ميناء سيفاستوبول، والهدف هو امتلاك سلاح بحرية متقدم في البحر الأسود.
لكن حلم الوصول إلى المياه الدافئة لا يتحقق تماما بموانئ روسية على البحر الأسود، والسبب مرة أخرى هو الجغرافيا، فالسفن التجارية والعسكرية الروسية لا يمكن أن تخرج من البحر الأسود أو تدخل إليه إلا بعبور مضيق البوسفور التركي، أما عبورها باتجاه البحر المتوسط فينبغي أن يتم عبر مضيق تركي آخر هو الدردنيل.
اتفاقية مونتريه Montreux لعام ١٩٣٦ كفلت حق الملاحة الدولية في المضيقين في حالات السلم، ولكن يبقى المضيقان تحت السيادة التركية وتستطيع -تحت ذريعة تنظيم حركة السفن- تأخير عبور السفن الروسية التجارية إن هي أرادت ذلك، أما في حالات الحرب فإن تحكم تركيا في عبور السفن الحربية يصبح أكبر.
ومن هنا فإن وجود قاعدة عسكرية روسية في طرطوس السورية يصبح مهما من وجهة نظر موسكو، فهو الميناء الوحيد الذي يمكن للسفن العسكرية الروسية استخدامه على البحر المتوسط وخارج كل تلك المضائق والعقد الجغرافية المتعددة.
بالعودة إلى الأزمة التي نشبت بين تركيا وروسيا عقب إسقاط المقاتلة الروسية على الحدود التركية السورية، فإن ضرورات الجغرافيا وتداخل المصالح المشتركة تحول دون انفلات الصراع من عقاله، ولكل أسبابه.
تركيا تعرف أن علاقاتها الاقتصادية مع روسيا، ولا سيما استيراد ٥٥ بالمئة من حاجتها من الغاز، بالإضافة إلى الجوار المشترك بين تركيا وروسيا في آسيا الوسطى وتداخل المصالح في البحر الأسود كلها عوامل لا تسنح بتصعيد واسع مع روسيا، وهو ما يفسر لغة التهدئة التركية التي أعقبت سقوط الطائرة.
أما على الجانب الروسي، فإن عضوية تركيا في الناتو رادع أساسي، كما أن حاجة روسيا لشراكات استراتيجية مع تركيا مهمة أيضا، لا سيما في مد أنابيب الغاز التي عولت روسيا عليها كثيرا للعبور إلى أوروبا بعد تدهور العلاقات الروسية الأوكرانية، والانفتاح الاقتصادي الروسي على تركيا بعد العقوبات الأوروبية. كل هذه العوامل لن تسمح لروسيا بأن تذهب أبعد مما فعلت اتجاه تركيا، ومن الملاحظ مثلا أن الحكومة الروسية سارعت إلى الإعلان عن أن العقوبات لا تشمل الغاز، الذي سيستمر تدفقه عبر أنبوبين اثنين إلى تركيا، فسلاح الغاز في هذه الحالة سيعد تصعيدا خطيرا سيضر بروسيا مثل ضرره بتركيا وأشد.
بالإضافة إلى أن روسيا لا تود أن تخوض صراعا مفتوحا في ثلاثة اتجاهات في آن واحد، فتدخلها في أوكرانيا مرهق ولم يصل إلى نهاياته بعد، وتدخلها في سوريا مكلف ومشكوك حتى الآن في جدواه، وفتح معركة مع تركيا لن يكون خيارا استراتيجيا مقبولا في الوقت الحاضر.
الخطوات التي أعلنتها موسكو ضد تركيا تأتي في إطار شعور بوتين بإهانة بالغة جراء إسقاط تركيا للمقاتلة الروسية، وبوتين شديد الاهتمام بصورته كرجل قوي، ولقد عبر عن شعوره عندما وصف الحادثة بأنها (طعنة في الظهر) ذلك أنه كان يعول على تركيا في مواجهة الغرب، وقد أعلن عن ذلك بالفعل عندما وصف أردوغان في ديسمبر من العام الماضي بأنه رجل قوي الشخصية، لأنه استخف بالضغوط الغربية، وأعلن عن اتفاقية الطاقة الموقعة بين البلدين) جاء ذلك في أعقاب إحجام تركيا عن المشاركة في العقوبات ضد روسيا، وتوقيعها اتفاقات اقتصادية واسعة مع روسيا.
لكن بوتين أساء فهم تركيا، فعول على المصالح الاقتصادية دون مصالح الأمن القومي التركي، فجاء تدخله العسكري في سوريا من دون مراعاة للعمق الاستراتيجي التركي، وأوغل في إهانة تركيا عندما انقضت مقاتلاته على الثوار السوريين المتحالفين مع تركيا، فكان على تركيا أن ترسل رسالة قوية بإسقاط الطائرة الروسية حال اختراقها للأجواء التركية، رسالة حازمة ولكنها محسوبة.
الأزمة بين الطرفين ستبدأ في الخفوت تدريجيا، وسوف يحاول بوتين من خلال العقوبات الاقتصادية، واللهجة الحادة أن يستعيد شيئا من هيبته، ولكن المصالح المشتركة سوف تدفع قريبا إلى تهدئة، فاعتبارات السياسة تحددها الضرورات لا الانفعالات، وفي حالة تركيا وروسيا فضرورات الجغرافيا ومصالح الاقتصاد مقدمة على مرارات التاريخ وانفعالات الحاضر.
المغامرة الروسية في سوريا لم تكن محسوبة العواقب، وستتعمق ورطة روسيا، ولعل ذكريات التدخل السوفياتي في أفغانستان ستطفو إلى سطح الذاكرة الروسية مع ارتفاع الخسائر البشرية والمادية، إسقاط المقاتلة الروسية رسالة تركية مفادها أن الشرق الذي ظنه بوتين ساحة فراغ استراتيجي مفتوح، هو أعقد مما يظن وأشد خطرا مما يحسب.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس