خلود الخميس - صحيفة الأنباء
للتعبير عن الحب قبلة، وللتعبير عن التقدير قبلة، وللتعبير عن الجمال قبلة أيضا، وقبلة الجمال اسطنبول، أما بقية ولايات تركيا فلكل قصتها.
أظن أن أي محاولة لتشويه الحب والتقدير والجمال تكون عصية على تغيير المشاعر التي تعلو ملامح أي منهم عندما يحصل على قبلته، فأمام استذكارها يصغر ويتلاشى كل شيء غيرها.
لنترك خلفنا التحليلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية و... و... و...، فهي متشابهة وإن اختلفت زوايا النظر إليها، ولنقف معا في وسط ساحة الاستقلال، أو على ضفة البوسفور للجانب الأوروبي، وعنده ينتصب قصر الحكومة «دولمة بهجة»، أو في زحام منطقة الشاب العظيم محقق النبوءة فاتح القسطنطينية وجاعلها «اسطنبول» ونستشعر لبها، نقترب من عمقها إلى أن نلمس روحها مع كل شهيق.
هل بإمكان العامة والمارة والعابرين الوقوف على «لب» الشيء، وهو العصارة ومربط الحكاية؟! لا، إنه للخاصة.
وكذلك البهجة التي تبعثها اسطنبول في القلوب، هي لذة لمتذوقة «الكوكتيل» المتقن بين التاريخ والجغرافيا والمجتمع، الزمان والمكان والسكان، اسطنبول: مقياس إدراك الجمال.. هكذا أراها.
في يوم بارد، أطلقت لشعوري القيادة، فأخذني حيث توقف الزمن، على الأقل بالنسبة لي، على الرغم من أن مسير العقارب مثل «مارش» عسكري لا يفتر ولا يهدأ ولا يتعطل، إلى الشارع الممتد على طول ضفة مضيق البوسفور الأوروبية بدءا وتسلسلا من «بشكتاش» ثم «اورتوكاي» ثم «بيبك» ثم «إميرجان» ثم توقف كل شيء أمام مشهد الغروب.
صاحبة الجلالة الشمس التي تعطي الأرض نورها، تغرق أمام أعيننا في حد الماء الفاصل بينها وبين السماء، وترحل، فهل بكتها الأعين؟! لا، بل هللت واستقبلت غريمها القمر بفرح وسرور، وكل بسط سجادة تشبه اللحف على الحشيش الأخضر قبالة منطقة المرافئ، محاولة لمحاكاة فخامة اليخوت والطبقة الرفيعة من المجتمع فيها.
تساءلت: كم هم محرومون سكان اليخوت الفارهة من الندى الذي يعلق بكف عند لمسه خد زهرة تفتحت فقط حين مسها! وأبتسم لأن خوفي من البحر شمل وسائل الانتقال فيه، وأن هذا كله مدبر لي وقدر لأستشعر السلام الداخلي في الجلوس فوق النبات الأخضر ولأطبطب إن هبت ريح رقيقة على قلق زهرة عذراء.
لدي اعتقاد بأن قواميس اسطنبول لا تضم مصطلحات البشاعة والتشويه والتعاسة، وأنه على مر العقود والقرون هناك أرواح سكبت فوق تلك المعاني لتمحوها إلى الأبد.
بعد أن مارست مناسك الغروب، وفي طريق الإياب، وقفت قبالة قلعة «روملي» أسمع أصوات تكبيرات النصر تسافر عبر القرون، تطمئن من يظن أن الدماء التي صبت هنا ذهبت عبثا بأنها مازالت في حرارتها وبلونها الأحمر القاني، تمنح العزيمة والإصرار لأجيال نشأت تغدو وتروح وتشب وتهرم وتفيق وتغفو وهي متيقنة ببقاء اسطنبول وشموخ البوسفور وصبر مرمرة.
وفي مفترق «اورتوكاي» توقف عازف «الكمنجة» عندما صدح أذان العشاء، وارتفع صوت أعجمي يكافح لينطق حرف الواو باللغة العربية بصعوبة، وهو ينادي للجماعة «حي على الفلاح».
مرفأ هنا يحتضن مسجدا، وآخر هناك يبسط صدره لآخر، رأيت في اسطنبول مرافئ تصطف فيها مساجد لا اليخوت، على امتداد ضفتي البوسفور الآسيوية والأوروبية وأنت تسير تجد مسجدا في ضفة ينادي «الله أكبر» يجيبه آخر في الضفة المقابلة «حي على الصلاة».. هذه هي اسطنبول، وهذه هي رسالتها.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس