ترك برس
بدأت قصة المطبعة الرسمية الأولى في الدولة العثمانية بإصدار السلطان "أحمد الثالث" فرمانًا عام 1727 يجيز تأسيس "مطبعة" لكونها تؤدي إلى نشر المعارف والعلوم بين أفراد الأمة الإسلامية.
وسمح الفرمان المذكور بطباعة كافة الكتب عدا كُتب "الفقه"، "التفسير"، "الحديث الشريف" وكتب "علم الكلام" بموافقة شيخ الإسلام "ينيشيهرلي عبد الله أفندي" الذي أُدرجت فتواه في نص فرمان السلطان، وبتقريظ مجموعة من العلماء والقضاة لرسالة "وسيلة الطباعة" بكلمات تؤكد على تأييدهم لفكرة تأسيس المطبعة مع وضع كل هذا في بداية أول إنتاج المطبعة وهو معجم "وان قولو".
إبراهيم متفرقة وتأسيس أول مطبعة عثمانية
إبراهيم متفرقة [1670-1747] هو دبلوماسي ومؤلف ومترجم ورجل دولة عثماني من أصل مجري، التجأ إلى الدولة العثمانية وتحول من "المسيحية التوحيدية" إلى "الإسلام"، وبسبب إلمامه باللغة الفرنسية والتركية والمجرية، ومهارته بالأمور السياسية والتنظيمية وقدرته الخاصة على إجراء المفاوضات، عينته الدولة مستشارًا ومبعوثًا خاصًا للسلطان للشئون الخارجية، فقام بإجراء عدة مفاوضات دبلوماسية خاصة مع "النمسا" و"روسيا" عام 1715 كما شارك في المباحثات التي جرت في "بولونيا" بين الدولة العثمانية والبولونيين عام 1737، وأدار جلسة المباحثات التي جرت حول تسليم قلعة "أورشوڤا" عام 1738 إلى الدولة العثمانية.
ويروي الباحث المتخصص في التاريخ العثماني كريم عبد المجيد، في تقرير له نشر على موقع "إضاءات"، تحت عنوان "هل رفضت الإدارة العثمانية استخدام المطبعة؟"، أن إبراهيم متفرقة ألّف وترجم عدة كتب مثل "رسالة إسلامية" التي كتبها عام 1710 موضحًا أسباب انتقاله من المسيحية إلى الإسلام وضمّنها انتقادًا شديدًا للكاثوليكية والباباوية، مع توضيح أن الإسلام خاتم الرسالات وكيف أن الكتب السابقة كانت تبشر بسيدنا محمد [صلى الله عليه وسلم].
ووضع كذلك من ضمن مؤلفاته الهامة رسالة "وسيلة الطباعة" التي وضَّح فيها أهمية المطبعة في حياة الشعوب، وكيف أن الكتاب المطبوع رخيص الثمن مقارنة بالكتاب المخطوط سيكون أفيد بكثير في نشر المعارف وخدمة طلبة العلم وقُدم إلى الصدر الأعظم، أما الرسالة الثالثة فهي "أصول الحكم في نظام الأمم" وهي رسالة وضعها بناءً على طلب السلطان "محمود الأول" [1730-1754] لتشخيص العلل والمشاكل التي تواجه الدولة وكيفية التغلب عليها.
ويشير عبد المجيد إلى أن اسم إبراهيم يرتبط بتأسيس أول مطبعة إسلامية عثمانية رسمية في الدولة تطبع الكتب بالتركية العثمانية ذات الحروف العربية، فقد كرَّس جهودًا كبيرة للترويج للفائدة التي ستعود على المجتمع العثماني بتأسيس المطبعة، وحَمل على عاتقه اختيار العناوين التي ستطبعها هذه المطبعة، واستمر لسنوات في تجريب عملية الطباعة بشكل شخصي قبل أن تتبنى الدولة الاختراع بشكل رسمي بحثٍّ كبير منه، فعمل على استقدام آلات الطباعة من أوروبا مجريًا تجارب الطباعة في منزله بمنطقة "فاتح" بإسطنبول قبل أن يحصل على إذن رسمي بذلك.
وشرع متفرقة بوضع خطة لطباعة مجموعة من العناوين ابتداءً من عام 1729 حتى عام 1742، ونتج عنها طباعة 17 عنوانًا مختلفًا في المعاجم والسياسة والتاريخ والجغرافيا وبعدد 500 إلى 1000 نسخة لكل عنوان، فكان باكورة الإنتاج متمثلًا في معجم "وان قولو" أول عمل يرى النور من مطبعة متفرقة في مجلدين عام 1729، وهو الترجمة العثمانية لمعجم "الصحاح" اللغوي الذي وضعه "إسماعيل بن حمّاد الجوهري" في القرن الرابع الهجري، وتُرجم إلى التركية العثمانية في القرن السادس عشر بواسطة "مُحمد بن مصطفى الواني". استمر متفرقة في طباعة الكتب بشكل منتظم حتى قبل وفاته عام 1747 ليطوي بذلك صفحة تاريخية هامة من الذاكرة التاريخية الإسلامية لتأسيس هذا الاختراع الذي ساهم في تغيير شكل العالم الإسلامي في القرون التالية.
يذكر الباحثون أن فكرة الطباعة تضرب بجذور تعود إلى آلاف السنين مع الترجيح أن "الصينيين" كانوا أول من عرف الطباعة، باستخدام قوالب من الخشب ينقشون على سطوحها الكلمات والرسوم مقلوبة ثم يختمون بها، ويتفق كثير من الباحثين والفلاسفة ورجال العلم على أن اختراع المطبعة مثّل نقلة حضارية جديدة في تاريخ المجتمعات الإنسانية، فالثورة المعرفية التي انطلقت مع اختراع المطبعة عندما تيسر انتشار الكتاب على نطاق واسع؛ شكّلت قاعدة لإحداث تَغيُرات كبيرة في أفكار مجتمعات وسط وغرب أوروبا، كما ساعدت في نشر ثقافة القوميات الأوروبية ولغاتها وفلسفاتها في المجتمعات غير الأوروبية، والتي أثرت بدورها على شكل الحضارة البشرية فيما بعد.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!