د. أيمن محمد الجمال - خاص ترك برس
كثيرا ما تتمّ قراءة السياسة التركيّة الجديدة قراءة تشاؤميّة من قبل كثيرٍ من المعارضين السورين، وأحيانا الإسلاميين منهم لتعارضها مع مبادئهم الدينية والاعتقاديّة، ولكن أكثر من يسيئون فهم التغيّرات التركية هم الذين لا يرضون عن المشروع التركي في المنطقة.
ولا شكّ أنّ القوميين العرب ومن تربوا على أيديهم يعارضون تركيا لمجرد كونها غير عربية أو لأنّ مشروعها أبعد عن القوميات وأقرب إلى المشروع الإقليميّ الذي لا يستثني أحدًا من علاقاته واعتباراته ومنطلقاته، مع إعطاء الأولويّة للأتراك كونهم المكوّن الرئيس في الداخل التركي، وبالدرجة الثانية للكرد باعتبارهم أحد مكوّنات المجتمع التركي، ثمّ تتداخل المراتب بين العرب باعتبارهم دول جوار، وأوربّا باعتبار وجود مصلحة استراتيجية لتركيا في الدخول في منظومة عالمية كبرى هي الاتحاد الأوربيّ، وكذلك الناتو لانتماء تركيا له فعليًّا، مع مواقفه المتذبذبة مؤخرًا من قضية الطائرة الروسية وغيرها من القضايا، وكذلك للإيرانيين باعتبارهم دولة جوار في إيران نفسها ومحتلّ مبطّن لسوريا والعراق !
هذا المشروع التركي الكبير كان حتى وقت قريب يقف بوجهه جزئيًّا سياسة تركيا التي تمنعها من التعاطي الكامل مع هذه المنظومات، وهذا ما سبّب تحجيم الدور التركي في استكمال المشروع التركي وفي سائر قضايا الأمّة ومنها القضيّة السوريّة، وفق رؤية الساسة الأتراك؛ ولا يمكن تجاوز هذه العقبة إلا بتغيير تلك السياسة والتراجع خطوة إلى الخلف من أجل التقدم خطوتين إلى الأمام.
تركيا ستتصالح مع الجميع، ومن ضمن الجميع (نحن) القوى الثوريّة السوريّة، فنحن دولة جوار بالنسبة لتركيا، ونحن قوّة مؤثّرة في الداخل التركي، ومنتشرة في كلّ المدن التركيّة، وخاصة المناطق الحدوديّة التي كانت تشكّل عبئا على الحكومات التركية بسبب وجود أغلبيات من الأقليّات هناك، ففي بعض المناطق أغلبيّة نصيريّة، وفي بعضها الآخر أغلبيّة كرديّة، ووجود عدد كبير من السوريين (العرب السنّة في الأصل) سيشكّل مع الزمن نوعًا من التوازن الذي تحتاجه تركيا للاستقرار على المدى البعيد، كما أنّ النسبة الغالبة من السوريين المقيمين على الأراضي التركيّة من مؤيدي حزب العدالة وسياساّة الأتراك أيضًا، وهذا يُشكّل دافعًا إضافيًّا لتحسين العلاقة مع الثوريين السوريين في تركيا.
ولذلك فإنّ الواجب يحتّم علينا إيجاد موطئ قدم في الساحة الجديدة التي تصنعها تركيا، تحقيقًا لمصلحة السوريين وتحقيقًا لمصلحة الأتراك أيضًا الذين لهم علينا حقّ الجوار والإيواء والنصرة.
سياسيًّا تُشكّل علاقات حليفك القويّة مع أعدائك فرصة ذهبيّة للتواصل من خلاله وعدّه طرفًا ثالثًا وسيطًا، لإقناع العدوّ بمطالبك ومشروعك وأحقيّتك للتوصل إلى حلّ وسط، أو إقناعه أحيانًا بالقبول بك لأنّك لن تُشكّل عقبة وجوديّة أمامه، ولذلك ينبغي النظر بإيجابيّة إلى علاقة تركيا الجديدة بروسيا وبإسرائيل، وعدم الامتعاض لوقوف تركيا موقفًا مخالفًا لموقفنا منها.
وينبغي أن نعلم أنّ مصالح تركيا الاستراتيجية مع الشعوب وليست مع الحكام، فالدولة التي تكون ديمقراطيّة يفكّر حكّامها بمصالحها بطريقة تختلف تماما عن الأنظمة الشموليّة التي مصلحة الحاكم تعني فيها مصلحة الشعب ! ولا قيمة للشعب إذا تحققت مصالح الحكام ومجدهم الشخصيّ. وأمّا مصالح تركيا مع الحكام فهي مؤقّتة مقيّدة بوجودهم، تزول بزوالهم؛ لأنّ هذه هي الطريقة الوحيدة التي يفهمونها.
كما أنّ علاقة تركيا مع التيار الإسلاميّ المعتدل علاقة استراتيجية، فتركيا هي التي تمثّل بعده الحضاري والتاريخيّ، والتيار الإسلاميّ المعتدل هو الذي يمثّل بعد تركيا وأملها المستقبليّ في ريادة الأمّة وقيادتها، وهو مشروع أردوغان الذي يُضحّي في سبيله بعلاقة عابرة مع حاكم ظالم أو كيان مغتصب.
التأنّي في التعاطي مع السياسة التركية الجديدة مطلوب، لكنّ الحذر من تركيا مرفوض تمامًا، فصاحب المشروع والمبدأ يتجاوز كلّ الخطوط الحمر لأجل مشروعه وليس ليقضي على مشروعه، وقد علمت الأمّة قاصيها ودانيها حجم المشروع التركي، والخطوات الحثيثة التي قطعها في الوصول نحو هدفه، فمن غير المنطقيّ أن يتغيّر المشروع وإن تغيّرت آليّات التعامل مع الواقع وتغيّرات السياسة الكبيرة.
والمبادرة مطلوبة أكبر من الجهات التي تريد الاستفادة من المشروع التركي، بقراءة هذه المتغيرات سريعا والتعامل معها على أنّها فرصة لمزيد من التواصل مع الأتراك لاستقراء ما عندهم من أفكار والبناء عليها سريعا، قبل أن تفوت الفرصة ويجد (غيرنا) من أصحاب الأفكار غير المعتدلة بغيتهم في هذا المشروع، فيقعوا من الخارطة التركيّة بمكان.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس