طلعت رميح - صحيفة الشرق

بدا أن الحصار الروسي قد أحكم -إلا قليلا- حول تركيا، وأن نظرية "المشاكل صفر" قد انتهت إلى الضد، وأن حلف الأطلنطي وأوروبا قد حددوا نطاق حركتهم باتجاه الضغط الروسي على تركيا عند حدود الرد الدفاعي الإستراتيجي، وهو ما يسمح بإضعاف تركيا تدريجيا (قلقا من مشروعها الإستراتيجي بقيادة حزب العدالة والتنمية) دون إسقاطها باعتبارها عضو بالحلف. وصارت الدعاية المضادة لتركيا تمني النفس بل تروج لقرب نجاح ثورة مضادة في داخل تركيا. وجاءت استقالة رئيس الوزراء التركي السابق داوود أوغلو، لتزيد التكهنات بتحول الرئيس التركي نحو سياسة خارجية أكثر حدة -لكون أوغلو المنظر والمهندس لنظرية المشاكل صفر مع المحيط- بما يفتح مساحات أوسع لتشديد الحصار الخارجي وزيادة التوترات الداخلية وتحولها إلى تمردات واسعة تسقط النظام أو أردوغان على الأقل.

وكانت المفاجأة، أن قام أردوغان بحركة إستراتيجية مباغتة، لا بتحركات تكتيكية في هذا الاتجاه أو ذاك. والفارق، أن الأولى (الحركة الإستراتيجية) تعيد ترتيب التحالفات وتغير اتجاهات وملامح الحركة وتفتح مجالات أوسع في اتجاهات جديدة مختلفة داخل تحالفات الخصوم، فيما الثانية يقتصر دورها على فتح ثغرات والقيام بهجمات أو تراجعات جزئية هنا أو هناك.

وتتعدد أوصاف الحركة التركية، فيمكن القول بأنها خطوة إجهاضية للحصار الذي كان في طريقه للإحكام حول الجغرافيا والدور الإستراتيجي التركي، إذ إن إعادة العلاقات السياسية والاقتصادية مع روسيا لا يزيح الصراع مع روسيا عن كاهل الدور التركي، بل يحقق تغييرا في معادلات الحركة باتجاه "الأصدقاء" أيضا. وهي خطوة تقطع الطريق على توفير الخصوم الخارجيين الدعم لعناصر المنظمات الإرهابية في داخل تركيا وتفتح مساحة أكبر أمام إستراتيجية إنهاء الفعل العسكري لحزب العمال الكردستاني. فضلا عن أنها حركة، تعيد إدخال تركيا إلى حلبة المنافسة كلاعب إقليمي، وتمنع انفراد إيران بدور اللاعب الإقليمي المهيمن. وهي حركة إستراتيجية تعيد رسم العلاقات بين تركيا وأوروبا والولايات المتحدة، بناء على المعطيات الإستراتيجية التي تكشفت في فترة الصراع مع روسيا، حتى يمكن القول بأننا أمام قرار تركي بفك الارتباط مع الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة، وهنا تبدو تعبيرات الساسة الأمريكيين عن اندهاشهم من التحرك التركي ذات دلالات مهمة. كما هي تعيد لتركيا القدرة على إعادة التموضع الدولي والإقليمي وتفعيل قدرتها على المساهمة النشطة والفاعلة في الحراك وإعادة الترتيب الجارية في الإقليم.

واللافت أن أردوغان لم يقدم تنازلات حقيقية في سبيل إحداث تلك التحولات، وأنه اقتصر في تغيير حركته الإستراتيجية على الانتقال من المجابهة إلى فكرة توازن المصالح، فيما هو حقق لبلاده تطويرا لأوضاعها السياسية والاقتصادية ودبلوماسية وإعلامية، فروسيا لم تحصل على تنازلات من تركيا إلا بضع كلمات أسى على مقتل الطيار الروسي، وإسرائيل هي من قدم الاعتذار. وبعيدا عن التفاصيل، فقد ثبتت تركيا قدرتها الإقليمية من خلال الصراع السابق بإظهار مدى امتلاكها إرادة المواجهة ومن خلال التغيير الحالي بالذهاب نحو توازن المصالح.

وفي ذلك تثبت تركيا قدرتها على المناورة المدروسة والمخططة والمتغيرة وفقا للمصالح والموازنات وتؤكد امتلاكها أوراقا تفرض بها نفسها لاعبا إقليميا ودوليا. لم ترتكب تركيا لعبة المواقف العنترية ولم تضع ما هو فكري في مواجهة ما هو إستراتيجي يرتبط بالمصالح والتطوير الاقتصادي والسياسي البعيد. وذلك درس مهم في إدارة الصراعات، على الأقل بالنسبة إلينا نحن العرب.

وأخيرا، فقد أثبتت تركيا قدرتها على اتخاذ القرار الإستراتيجي المستقل في توقيت دقيق، وأنها قادرة على الحركة الإستراتيجية دون تغيير تحالفاتها العربية.

 

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس