د. وسام الدين العكلة - خاص ترك برس
قد تكون محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا أكثر المواضيع التي كتب عنها خلال هذا العام وتناولها الكثير من الكتاب والمحللين السياسيين والعسكريين والقانونيين كلًا من وجهة نظره، وذهب البعض إلى وضع السيناريوهات المحتملة لقيام الولايات المتحدة الأمريكية بتسليم الداعية "فتح الله غولن" للسلطات التركية دون الاستناد إلى أي أساس قانوني!
كلنا يعلم أن فتح الله غولن مقيم في الولايات المتحدة منذ عام 1999 بموجب إقامة نظامية، ولا توجد لديه أية إشكالات قانونية بل ربما يحظى بوضع قانوني يفوق الكثير من أقرانه المقيمين على الأراضي الأمريكية بحكم علاقاته الوثيقة مع العديد من المسؤولين والسياسيين الأمريكيين، ولديه أملاك واستثمارات وشركات كبرى داخل الولايات المتحدة وخارجها يديرها بواسطة مجموعة كبيرة من المستشارين من جنسيات متعددة في أكثر من 140 دولة حول العالم.
كما نعلم أن أغلب دول العالم تمتنع عن تسليم القادة السياسيين أو المطلوبين بسبب آرائهم السياسية وتحتضن الولايات المتحدة الأمريكية الكثير من هؤلاء! فما هي الحجج القانونية التي ستستند إليها السلطات التركية لاسترداد غولن؟
وهل تستطيع الولايات المتحدة رفض تسليمه بحجه أنه زعيم سياسي؟ أو أن الجرم المطلوب لأجله ذا طابع سياسي!!
لا شك أن موضوع تسليم المجرمين بين الدول شائك جدًا وفيه الكثير من التعقيدات لذلك تلجأ الدول أحيانًا إلى الاستعانة بالشرطة الجنائية الدولية (الانتربول) للقبض على بعض المتهمين بارتكاب جرائم جنائية، وذلك لامتناع الدول المقيمين على أراضيها عن تسليمهم لاعتبارات سياسية أو حقوقية أو لكونها تعتبر القضاء في الدولة طالبة التسليم لا يطبق المعايير الدولية المتعلقة بالتحقيق.
لذلك تلجأ الدول إلى الاتفاقيات الثنائية للمساعدة في مكافحة الجريمة وتبادل المجرمين الذين يخلون بأمنها بعيدًا عن تعقيدات الانتربول، ولأن الموضوع سينحصر بين سلطات البلدين طالب التسليم والمطلوب إليه لذلك من المفترض أن تكون الإجراءات سريعة ومرنة قدر الإمكان.
اتفاقية تسليم المجرمين والمساعدة المتبادلة في المسائل الجنائية
في عام 1979 تم توقيع اتفاقية بين الولايات المتحدة الأمريكية والجمهورية التركية تسمى "اتفاقية تسليم المجرمين والمساعدة المتبادلة في المسائل الجنائية" لمساعدة البلدين في تبادل المطلوبين بأحكام قضائية وجرائم جنائية والمساعدة في الأمور الجنائية الأخرى التي تتطلب تبادل الخبرات الفنية خاصة تلك المتعلقة بتزوير العملات وتجارة وتهريب المخدرات والآثار وغيرها، وقد دخلت الاتفاقية حيز النفاذ في الأول من كانون الثاني/ يناير 1981.
وتنص المادة الأولى من الاتفاقية على (تعهد الأطراف المتعاقدة بتسليم جميع الأشخاص الذين يوجدون على أراضي الطرف الموجه إليه طلب الاسترداد من الذين يتم محاكمتهم أو المتهمين بارتكاب جريمة أو المدانين بارتكاب جريمة داخل إقليم الدولة طالبة التسليم).
في حين اشترطت المادة الثانية من الاتفاقية أن يكون الفعل المرتكب معاقب عليه في قوانين الدولة المطلوب إليها التسليم، وأن تكون عقوبة الفعل المطلوب التسليم من أجله هي الحرمان من الحرية الشخصية (السجن) لمدة سنة على الأقل.
هل يجوز التسليم في الجرائم السياسية والعسكرية وفق الاتفاقية المذكورة؟
تشترط المادة الثالثة من الاتفاقية المذكورة ألا تُعتبر الجريمة - المطلوب من أجلها التسليم - من قبل الطرف الموجه إليه طلب الاسترداد ذات طابع سياسي أو عسكرية بحتة أو أن التهمة موجهة للشخص بسبب آرائه السياسية. أي أن الاتفاقية لا تجيز تسليم المطلوبين بين البلدين بسبب آرائهم السياسية أو بسبب ارتكابهم جريمة سياسية أو عسكرية بحتة!
إلا أن المادة المذكورة لا تعتبر الجرائم التي تستهدف رئيس الدولة أو الحكومة أو أفراد أسرهم من الجرائم السياسية حيث نصت على أن (أي جريمة ترتكب أو يشرع في ارتكابها ضد رئيس الدولة أو رئيس الحكومة أو أفراد أسرهم لا تعتبر ذات طابع سياسي) لأنها تتجاوز التعبير عن الرأي السياسي إلى استهداف رموز الدولة وحتى لا تعتبر هذه الاتفاقية ذريعة لامتناع أي طرف عن تسليم المطلوبين بحجة أن أفعالهم تندرج ضمن حرية التعبير عن الرأي.
إجراءات وآلية تقديم طلب الاسترداد
عادةً ما تقترن طلبات استرداد المطلوبين بشروط وإجراءات معينة تنظمها اتفاقيات تسليم المجرمين الموقعة بين الدول، لذلك نصت "اتفاقية تسليم المجرمين والمساعدة المتبادلة في المسائل الجنائية" الموقعة بين تركيا والولايات المتحدة على ضرورة أن يكون طلب التسليم مكتوبًا، وأن يرسل عبر القنوات الدبلوماسية (وزارة الخارجية – السفارات) وأن يرفق الطلب بالملفات والمستندات التي تؤيد طلب الاسترداد، بالإضافة إلى مذكرة اعتقال صادرة عن الجهة القضائية المختصة في الدولة طالبة التسليم.
وفي حال الاستعجال يجوز للطرف طالب التسليم طلب اعتقال الشخص المطلوب تسليمه مؤقتًا لمدة لا تزيد عن 60 يومًا يتوجب عليه خلالها تقديم الأدلة والثبوتيات التي تدينه بشكل قاطع.
حتى الآن أثبتت التحقيقات التي أجرتها السلطات التركية تورط غولن وجماعته المعروفة بـ"الكيان الموازي" أو منظمة "خدمة" بمحاولة الانقلاب الفاشلة وتمويلها وتجنيد ضباط ومسؤولين في عدد من مؤسسات الدولة للانقلاب على الحكومة المنتخبة ديمقراطيًا وقد سلمت السلطات التركية حتى الآن للسلطات الأمريكية أربعة ملفات تثبت بشكل قاطع لا لبس فيه وقوف غولن وراء المحاولة الانقلابية في حين يتم تحضير ملف خامس وسيتم إرساله خلال الأيام المقبلة، كما سيتم ارسال مسؤولين ومختصين أتراك لمتابعة سير الإجراءات في الولايات المتحدة.
حسب الاتفاقية المذكورة أعلاه فأن موقف الحكومة التركية قوي جدًا من الناحية القانونية خاصة وأن الانقلابيين كانت لديهم مخططات لاغتيال رئيس الدولة أو اعتقاله بالإضافة لنحو 40 ألف من المسؤولين والسياسيين داحل الحكومة وخارجها، إلى جانب ارتكابهم جرائم قتل مدنيين حاولوا عرقلة حركتهم في الشوارع واستهداف مواقع سيادية هامة ولها رمزية كبيرة لدى الشعب بالطائرات والدبابات بأوامر مباشرة من قياداتهم وهذا يضع الولايات المتحدة في موقف محرج جدًا إذا ما حاولت اعتبار غولن زعيمًا سياسيًا وأن الأفعال المنسوبة إليه بسبب آرائه السياسية.
لا شك أن الولايات المتحدة ستحاول تأخير تسليم غولن قدر المستطاع وربما لن تسلمه إطلاقًا وتتذرع بالإجراءات القانونية خاصة وأنه يحظى باهتمام كبير في الأوساط السياسية والعلمية في أمريكا، أو ترحله إلى دولة ثالثة تحت حمايتها للتملص من التزاماتها القانونية بموجب الاتفاقية الموقعة بين البلدين، خاصة وأن تسليمه قد يفتح عليه أبواب لا تزال مفاتيحها بيد غولن شخصيًا تتعلق بدعم المخابرات الأمريكية لمحاولة الانقلاب والتخطيط لها والعلاقات السرية بينها وبين منظمة الكيان الموازي وهو ما قد يشكل فضيحة كبيرة للإدارة الأمريكية التي تدعي محاربة الإرهاب ودعم الديمقراطية والاستقرار في المنطقة في حين تقدم الدعم لمنظمات تعمل على زعزعة الأمن فيها. ولا شك أن تسليم غولن سيتسبب بخسارة كبيرة للولايات المتحدة لأن تسليمه لتركيا يعني انهيار المنظمة التي بناها منذ أكثر من 40 عامًا وتحظى بدعم أمريكي واسع خاصة بعد هجمات أيلول/ سبتمبر 2001 لمواجهة المنظمات والحركات الإسلامية التي تعتبرها واشنطن أصولية وتشكل خطر على أمنها ومصالحها داخل الولايات المتحدة وخارجها.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس