عمار الكاغدي – خاص ترك برس
ربّ الأسرة الناجح هو الذي يدخل اللقمة الحلال لأسرته في الزمن الصعب، وبالانتقال إلى مستوى الدول فالاقتصاد هو "لقمة الشعب" والواجب على كل من يسوس الدولة أن ينأى بلقمة شعبه عن الضغوطات والاستغلالات والأهم عن التنازلات.
يختصر هذا المعنى بعبارة "تنزيه الاقتصاد" فهل نجحت معظم الدول في هذا المجال؟؟
يتبادر إلى أذهان البعض أن الاقتصاد النزيه هو ذاته الاقتصاد القوي ضرورةً وأن التلازم بينهما قائم ولكن الواقع يكذب ما سبق والنموذج الأمريكي حاضر هنا بقوة حيث الغاية تبرر الوسائل لا الوسيلة فحسب ويمكن النظر إلى السياسة الأمريكية تجاه الخليج العربي خلال العقود الثلاثة الأخيرة على أنها سياسة خارجية في الظاهر، واقتصاد شركات عابرة للقارات مفتوحة الشهية للنفط في الحقيقة والواقع، فالرئيس الأمريكي "جورج بوش الأب" كان فوّاحًا برائحة النفط لكثرة تشابك مسمّياته الوظيفية في مجالس إدارة الشركات النفطية وهو نفسه الذي أطلق "عاصفة الصحراء" ردًا على "صدام حسين" الذي ضمّ الكويت بعد أيام فقط من لقائه بالسفيرة الأمريكية في العراق، وليس بأفضل منه حالًا من حاربه بشعار "إنه الاقتصاد أيها الغبي" بيل كلينتون، وثالثهما وابن أولهما "جورج دبليو بوش" مستلهم الحرب الصليبية و"cowboy" الغرب على العالم.
صحيح أن دول الخليج لم تكن يومًا ندًا للبطش الأمريكي بأدواته ولكن الصحيح كذلك أن سياسات البعض من هذه الدول كانت استجلابية للوجود الأمريكي المباشر تحت ستار الحفاظ على منابع النفط الأهم عالميًا ولكن الفاتورة على الدوام كانت مضاعفة وعلى حساب المستنجد لا المنجد!!! أضف إلى ذلك عجزًا أو شبه عجز في إدارة الموارد وتباطؤًا متفاوتًا في إنشاء البنية التحتية الضامنة لتنمية مستدامة حقيقية تسدّ مسدّ النفط يومًا ما هو لا بد آتٍ.
وحاصل هذا كله نتائج لا تناسب مع مقدماتها من حيث المخزون الذي يفترض أن يكون استراتيجيًا فيما لو تم التعاطي مع قضايا المرحلة الماضية على أسس مختلفة.
وغير بعيد يطالعنا النموذج الإيراني في تطويع الاقتصاد النفطي بقبضته الحديدية داخليًا وبشبه النووية خارجيًا فغني عن التعريف أن نهر "البترودولار" يصب تحت أقدام الولي الفقيه لعقود خلت هي عمر الثورة ليحوّل مجراه بعد ذلك إلى مزرعته الخاصة والمسماة "تصدير الثورة" ليعاني الشعب الإيراني بين الثورة وتصديرها الأمرّين، وهو يشاكل في هذا المعنى النموذج الكوري الشمالي وكلاهما كمن يسعى لامتلاك سترة واقية من الرصاص باهظة الثمن في حين أنه لا يجد ثوب صوف رخيص يتدفأ به شتاء أو أي ثوب يستر عورته صيفًا، هذا إن صدقوا في كون مشاريعهم النووية سلمية أو دفاعية لا هجومية.
وبالنموذج التركي أختم فالملاحظ أن الاقتصاد التركي لم يكن يومًا اقتصاد طفرات أو صفقات مشبوهة فالتدرج الصاعد على أساس متين أكسب الاقتصاد التركي زخمًا له انعكاسه على الواقع المعاش على الأرض وهو بذلك ينأى بنفسه عن الاقتصادات الوهمية الخداعة والتي أسفرت فجأة عن أزمة مالية شهيرة عام 2008.
من خلال الاعتماد على مصادر متنوعة و بسياسات جاذبة للاستثمارات تدأب عليها الدولة من أعلى الهرم وصولًا إلى أسفله وبمحاولات حثيثة وجدية لتصفير المشاكل مع المحيط الإقليمي خاصة وما لهذا من انعكاسات في عالم المال والأعمال، كل هذا أثمر اقتصاد تركيا القوي الذي كان القرش الأبيض ليومها الذي كاد أن يسودّ لولا ثقة الشعب وبكل أطيافه والتفافه حول الشرعية التي عززت ولسنوات لقمة الشعب وحذفت الأصفار وأبدلت الضعف والتبعية بالقوة والريادة والأهم هنا هو تنزيه الاقتصاد عن مساومات السياسة وما قد تنحدر إليه من دركات ظاهرها رحمة وباطنها الذل والعذاب، وآخر ميدان خاض فيه الاقتصاد التركي بجدارة هو ميدان "لعبة عض الأصابع" والتي عادةً ما تؤلم الطرفين إبان تأزم العلاقات التركية الروسية مؤخرًا حيث برز عالميًا كاقتصاد ندّ يمكن فعلًا أن يراهن عليه في أحلك الظروف.
ويبقى المؤشر الاقتصادي الأبسط هو نبض الشارع والذي لا بد أن من عاش الفترة الماضية في تركيا قد لمسه فالمواطن التركي بقي على نظام تسوّقه المعتاد خلال الأزمات التي ألمّت بالبلاد مؤخرًا فقد اكتفى يوميًا بحاجاته المعتادة ولم يدّخر أي ضروري أو كمالي، فعلًا لا بد أنّ ثقةً بالاقتصاد الوطني كهذه تساوي بحدّ ذاتها اقتصادات دول أخرى مجتمعةً.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس