صحيفة فيلت الألمانية - ترجمة وتحرير ترك برس
كانت منطقة آسيا الصغرى إلى غاية القرن الحادي عشر، تمثل قلب الإمبراطورية البيزنطية المسيحية، إلا أن الانقسامات والصراعات الداخلية أدت إلى تعرض هذه الإمبراطورية إلى هزيمة ساحقة من قبل السلاجقة الأتراك، غيّرت مجرى التاريخ.
عند وفاة الإمبراطور البيزنطي "باسيل الثاني" في سنة 1025 في القسطنطينية، كانت الإمبراطورية البيزنطية في أوج قوتها حيث كانت عدة دول من جنوب إيطاليا وحتّى أرمينيا، ومن نهر الدانوب حتى أنطاكيا، كلها تخضع لحكم "الروم"، وهو الاسم الذي يحب البيزنطيون إطلاقه على أنفسهم لأنهم كانوا يفتخرون بانحدارهم من روما.
ولكن في غضون أقل من 50 سنة تعرضت هذه الإمبراطورية، التي كانت في السابق لا منافس لها في أوروبا، إلى التشتت والضعف. ومن أهم المحطات الحاسمة في تلك الفترة، كانت معركة "ملاذكرد" التي وقعت في 26 أغسطس/ آب 1071 ضد السلاجقة الأتراك، حيث أن نتيجة تلك المعركة سطّرت تاريخ العالم.
عندما توفي الإمبراطور باسيل الثاني، الذي كان قد غزا الإمبراطورية البلغارية وقضى عليها، وسمي حينها "سفاح البلغار"، لم يكن قد تم تعيين خليفة له، وكان حينها على وشك استعادة إيطاليا إلا أن من ورثوا الحكم بعده اهتموا بملذات الحياة والاستمتاع بالمكاسب التي حققها آخر الأباطرة الأقوياء من سلالة العائلة المقدونية التي حكمت بيزنطة، وهو باسيل الثاني الذي قام بالعديد من الإنجازات طوال فترة حكمه من سنة 976 إلى سنة 1025 ميلادي. وقد شهدت السنوات التالية تزايد سطوة الطبقة الأرستقراطية في عاصمة الإمبراطورية، حيث وصف المؤرخ جورج أوستروغورسكي فترة هزيمة ملاذكرد "بفترة الانحطاط بسبب سيطرة طبقة النبلاء".
المزارعون كانوا العمود الفقري للجيش
على عكس بقية ممالك أوروبا الوسطى والغربية، التي كانت تعاني من الانحلال وضعف السلطة المركزية، ظلت الإمبراطورية البيزنطية تتمتع بحكم مركزي قوي مستفيدة من نخبة متعلمة ومثقفة.
وقد حكم الإمبراطور هذه البلاد التي كانت مقسمة إلى أقاليم، من خلال مجموعة من الأجهزة الرسمية. وبذلك تمت تسمية الأقاليم، وتعيين حكام لها، يضعون المخططات ويضمنون وحدتها من خلال الجمع بين السلطات المدنية والعسكرية في يد الشخص نفسه.
مكّن هذا التنظيم المحكم البيزنطيين من مواجهة الغزوات العربية خلال القرنين السابع والثامن، والمحافظة على حكمهم. كما أن فكرة المزارعين المسلحين، الذين كانوا يعملون في أراضيهم ثم ينضمون إلى الجيش عند اندلاع الحروب، لعبت دورا كبيرا في الأوضاع الميدانية، وجعلت هذه الشريحة تكون العمود الفقري للقوة العسكرية البيزنطية، بالتعاون مع قوات الحرس الملكي وأسطول القسطنطينية.
ولكن كما هو الحال في آخر سنوات الإمبراطورية الرومانية القديمة، فإن ممتلكات المزارعين كانت دائما مهددة بالحملات التي يقوم بها مالكو الأراضي، والحملات التي كان يرسلها الإمبراطور لأرجاء الإمبراطورية.
كان باسيل الثاني آخر إمبراطور يمتلك الشجاعة والإرادة لمكافحة الظلم والفساد، وقد اختفت حال وفاته كل الأوامر والقوانين التي كان قد أصدرها لحماية المزارعين المسلحين، وبذلك وقعت ممتلكات هؤلاء المزارعين في قبضة مالكي الأراضي الجشعين. كما أن الحرس الملكي والأسطول البحري البيزنطي فقدا أيضا أبرز العناصر الداعمة لهما، حيث أنهما جمعتهما علاقات متقلبة مع المرتزقة، وامتنع الكثيرون عن دفع الضرائب، وعاث النبلاء فسادا في الإمبراطورية واستصدروا قانونا يعفيهم من دفع الضرائب.
وبينما تزايدت مصاريف الإمبراطورية ونفقات الأنشطة العسكرية، انخفضت المداخيل وأصبحت الدولة عاجزة عن توفير القوة التي كانت في السابق تخيف الأعداء وتبقيهم بعيدا عن الأراضي البيزنطية، خاصة بعد أن تلاشى دعم القبائل للسلطة المركزية.
ومع كل هذه الانقسامات والتقلبات، ظهر أعداء جدد في الأفق؛ ففي مدينة صقلية في جنوب إيطاليا، انتصر النورمانديون على المسلمين الفاتحين، كما ظهرت قوة جديدة متمثلة في البوشناق، الذين جاؤوا من آسيا الوسطى وعبروا نهر الدانوب، ومن ناحية الشرق بدأ تقدم الأتراك.
وقد بدأ صعود الأتراك في القرن التاسع، وفي ذلك الوقت بدأ أيضا حكم الخلفاء العباسيين في بغداد، وكان السلاجقة يخدمون في جيوش آسيا الوسطى ومنتشرين في عديد الدول. سرعان ما أصبح هؤلاء المماليك الأتراك دولة داخل الدولة، وعينوا قائدا عليهم يسمى "سلطان"، وهو صاحب السلطة العليا. كما أنه سرعان ما تقدمت القبائل التركية وتغلغلت في النسيج الثقافي الغني بين نهر الفرات ودجلة، وأمسكوا بزمام الحكم في بغداد، واعتنقوا الإسلام على المذهب السني.
وبفضل محاربتهم للدولة الفاطمية الشيعية في مصر، اكتسب الأتراك فيما بعد شرعية بما أنهم يجاهدون دفاعا عن الدين. ومن أبرز هذه القبائل التركية المتوحدة، كانت هنالك قبيلة "الأوغوز"، والتي تنحدر منها السلاسة الحاكمة السلجوقية التي وصلت فيما بعد للحكم وقادت هذه الإمبراطورية، وحكمت في أوج قوتها أجزاء واسعة من الشرق الأوسط والشرق الأدنى ومهدت الطريق فيما بعد لصعود الإمبراطورية العثمانية.
وفي عهد السلطان ألب أرسلان الذي حكم من سنة 1063 إلى سنة 1072، كثّف السلاجقة من هجماتهم على البيزنطيين وسيطروا على جزء كبير من أرمينيا وشنّوا غارات على صقلية، وقد كان إقليم أرمينيا في ذلك الوقت أحد أهم أجزاء الإمبراطورية البيزنطية.
وقد تسبب خوض معارك متزامنة على عدة واجهات في إرباك الحسابات العسكرية في القسطنطينية. وبينما كان قادة الإمبراطورية يواجهون صعوبة كبيرة في التصدي للتهديدات المتزايدة، وصل رومانوس الرابع ديوجينيس إلى سدة الحكم في سنة 1068، مستندا إلى دعم بعض الأقاليم. وقد سعى هذا الإمبراطور منذ عودته إلى كسب التأييد عبر الذهاب لمواجهة البوشناق، وبدأ مباشرة في إعادة تأهيل الجيش.
وأمام معارضة النخبة الحاكمة في العاصمة، توجه رومانوس الرابع ديوجينيس إلى الاستعانة بالمرتزقة القادمين من بلدان أخرى للخدمة العسكرية، مثل البوجناك والروس والنورمانديين والفرنجة. وحصلت فيما بعد مشاكل حول تسديد أجور هؤلاء المرتزقة، بسبب فساد القادة، وتوقف صرف الأجور، وهو ما قوبل بسخط كبير من المرتزقة الذين كانوا يقاتلون طمعا في المال ولم يتمتعوا بأية أخلاق، ولكن على الرغم من كل هذه المشاكل نجح رومانوس في قيادة عدة حملات عسكرية ناجحة على الواجهة الشرقية.
وفي سنة 1071، جهّز رومانوس خرائطه ومخططاته، وخرج في حملة تضم حوالي 70 ألف مقاتل في شهر آذار/ مارس، وتقدم بسرعة نحو أرمينيا. وهنالك نجح في السيطرة على مدينة ملاذكرد التي كانت محصّنة بالكامل، والواقعة في شمال بحيرة "وان" في منطقة شرق الأناضول، ولكن بعد هذا النجاح توقفت الهجمات البيزنطية.
قرر رومانوس تقسيم جيشه، وأمر مستشاره العسكري "جوزيف تارشانيوتس" بالتقدم نحو مدينة خلاط الواقعة في الأناضول الشرقية. ويبدو أنه أثناء توجهه إلى هناك وقع في كمين للسلاجقة، أو على الأقل هذا ما صرح به. وعلى كل حال، فإن جيشه تشتت في هذه المهمة.
ويشير بعض المؤرخين إلى إمكانية أن يكون هذا المستشار "تارشانيوتس" قد عقد اتفاقا سريا مع عائلة "دوكاس" المنتمية للطبقة الحاكمة في القسطنطينية، ومن مؤشرات وجود المؤامرة أن تارشانيوتس لم يخبر الإمبراطور بانسحاب القوة العسكرية التي أرسلها معه.
وبسبب ذلك تفاجأ رومانوس في اليوم الموالي بوجود السلطان ألب أرسلان في مواجهته، حيث أنه تقدم مع جيوشه نحو القوات البيزنطية وهاجمها بالسهام. وعلى الرغم من أن الدفاعات البيزنطية نجحت في صد هذا الهجوم، فإن العديد من المقاتلين المنحدرين من أصول تركية استغلوا الفرصة لتغيير مواقعهم وانضمّوا للسلاجقة.
ورغم أن رومانوس كان قد تكبد خسائر فادحة حتى قبل اندلاع المعارك الحقيقية، فإنه عندما تلقى عرضا من السلاجقة بإبرام هدنة رفض هذا العرض. وفي الواقع لم يكن أمام رومانوس أي خيار غير الرفض، حيث أن جيشه الذي كان يعاني من قلة الانضباط، والمتكون في أغلبه من المرتزقة، كان سيختفي أثناء العودة إلى الديار، كما أن عرشه في القسطنطينية كان مهددا في حال عدم عودته بالانتصار.
عزم رومانوس على خوض المعركة ضد السلاجقة، إلا أنه اتخذ قرارا لم يجد له المؤرخون تفسيرا إلى حد الآن، وهو تعيين الأمير "أندرونيكوس دوكاس" ليقود الفرقة المكلفة بالحراسة خلف الجيش. وطوال فترة الظهيرة واصل الجيش البيزنطي تقدمه، ووجد فقط صعوبة في التعامل مع الرماة السلاجقة الذين كانوا يتميزون بالسرعة ويتحركون على الجانبين. وفي نهاية المطاف، "تقدم الفرسان البيزنطيون ليقعوا مباشرة في كمين محكم نصبه لهم الأتراك"، وذلك وفقا لما ذكره المؤرخ البريطاني جون نورويتش. وما زاد الأمور تعقيدا بالنسبة لرومانوس الذي كان في وسط جيشه، هو أن أغلب تشكيلات جيش السلاجقة اختفت من الواجهة.
بعد ذلك سارع الإمبراطور البيزنطي لإصدار أوامره لجيشه بالتراجع، إلا أن الأتراك سرعان ما شنّوا هجوما قويا. ويؤكد معظم المؤرخين أنه لولا خيانة الأمير أندرونيكوس دوكاس، ولو بقيت القوات التي يقودها متواجدة في مكانها، فإن البيزنطيين كانت أمامهم فرصة حقيقية للانتصار، إلا أن دوكاس تعمّد عوض ذلك نشر شائعات في صفوف جنوده مفادها أن الإمبراطور قتل في وسط المعركة، وقرر الهرب مع الكثير منهم بعيدا عن مكان المواجهة.
وقد روى أحد المشاركين في المعركة أن "الأوضاع في ساحة المعركة كانت تراجيدية والمشهد كان مأسويا ويفوق الخيال، ولا يعبر عنه أي حزن أو نحيب، فما الذي يمكن أن يكون أكثر إيلاما من مشاهدة كامل الجيش الإمبراطوري البيزنطي يفر مذعورا، والإمبراطور يقف بلا حيلة، والإمبراطورية بأكملها تتهاوى".
وبسبب هذه الهزيمة، تعرض الإمبراطور رومانوس لموقف مذل، لم يتعرض له أي حاكم سبقه سوى فاليريان الثالث في سنة 260 بعد الميلاد في معركة ضد الفرس. حيث أسر رومانوس على يد السلاجقة في أرض المعركة، إلا أن السلطان ألب أرسلان قدّم له عرضا سخيّا، حيث طلب منه التنازل عن مناطق أنطاكيا وأورفا ومنبج وملاذكرد، وتزويج إحدى بناته من أحد أبناء السلطان، ودفع فدية قدرها مليون ونصف المليون قطعة ذهبية، فضلا عن دفع الجزية السنوية وهو ما وافق عليه رومانوس.
وقد حاولت النخبة الحاكمة في القسطنطينية استثمار هذا الواقع لمزيد إحكام قبضتها على السلطة، فسارعت لتعيين ميخائيل السابع دوكاس كإمبراطور، بعد أن كان إلى حد ذلك التاريخ شريكا في الحكم مع رومانوس، ليصبح بعد ذلك الحاكم الوحيد للإمبراطورية البيزنطية، أما رومانوس فقد تم سمل عينيه وإيداعه في دير للرهبان.
كانت نتائج هذه القرارات كارثية بالنسبة للإمبراطورية البيزنطية، حيث أن ميخائيل السابع رفض الالتزام بالاتفاقات التي عقدها رومانوس مع السلطان ألب أرسلان وابنه ملك شاه الذي خلفه في سنة 1072، واعتبر ميخائيل أن الإمبراطورية البيزنطية في حل من أي التزام.
فلم يكتف السلاجقة بتحقيق الانتصار العسكري على الإمبراطورية البيزنطية، بل واصلت القبائل التركية زحفها على منطقة الأناضول، ولم يعد البيزنطيون قادرين على السيطرة على الوضع، وانحسر حكمهم في المنطقة الساحلية في القسطنطينية، أما المناطق الداخلية فقد أصبحت تركية ومثلت جزءا من إمبراطورية سلاجقة الروم.
وفي سنة 1071، تمكن النورمانديون من غزو مدينة باري، التي كانت تمثّل آخر معقل للبيزنطيين في إيطاليا. وبذلك تحولت عظمة هذه الإمبراطورية إلى مجرد شبح من الماضي، بعد أن أصبحت عاجزة عن تأمين طريق الحج نحو القدس، وهو ما أدى إلى إصدار البابا أوربان الثاني دعوة لشن حملة صليبية في سنة 1095 ضد المسلمين، فيما يعد نتيجة أخرى من نتائج هزيمة البيزنطيين في معركة ملاذكرد. وبذلك ترسخت سيطرة الأتراك على منطقة الأناضول، وترسخ الطابع الإسلامي لهذه المنطقة، ولا أدل على ذلك من قرار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المتعلّق بتشييد قصر رئاسي جديد على النمط المعماري السلجوقي.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!