سردار تشام - ترك برس
خلال السنوات الأخيرة خطت تركيا خطوات كبيرة نحو تطوير علاقات متعددة الأبعاد والأطراف مع الدول الأفريقية. في عام 1998 أعدت "خطة العمل من أجل أفريقيا" قاعدة لعلافات تركيا مع أفريقيا، ودخلت هذه الخطة حيز التنفيذ الفعال مع ارتقاء حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في عام 2002.
وعندما أعلن الاتحاد الأفريقي تركيا شريكا استراتيجيا لم تعد السياسة التركية مجرد انفتاح، ولكنها صارت بداية فترة من الشراكة الاستراتيجية. كان نجاح تركيا كبيرا في الوصول إلى هذا المستوى في العلاقات خلال فترة قصير للغاية، وهو نجاح لم يتحقق من قبل خلال تاريخ الجمهورية التركية.
ترجع العلاقات التركية الأفريقية إلى بدايات القرن السادس عشر. كانت الامبرطورية العثمانية في ذلك الوقت تمتد بين أفريقيا وآسيا وأوربا عند ملتقى الحضارات القديمة، وكان هناك تفاعل جغرافي واسع من شمال أفريقيا إلى بحيرة تشاد عبر مصر وصولا إلى الصومال، لكن ،ويا للأسف، الاستعمار وسياسة الاستغلال التي انتهجتها الدول الغربية أنهت هذه العلاقات في نهاية عام 1912 . واليوم وبعد فترة انقطاع لمدة مائة عام انطلقت العلاقات من جديد مع تعميقها بشكل أكبر، حيث تزيد تركيا التي تملك ثاني أكبر تمثيل دبلوماسي في أفريقيا من أنشطتها في مجال التعاون الإنمائي في القارة مع وكالة التعاون والتنسيق التركية " تيكا" . وكجزء متمم للسياسة الخارجية النشطة افتتحت تيكا أول مكتب لها في إثيوبيا عام 2005 وصارت تعمل في 54 بلدا أفريقيا، وارتفع عدد مكاتبها إلى 21 مكتبا خلال فترة قصيرة لا تتجاوز عشر سنوات. وبفضل أنشطة تيكا تطورت العلاقات بين تركيا وأفريقيا، وتحقق تقدم كبير في إنشاء البنى التحتية اللازمة لتنمية القارة.
صورة " القارة المظلمة " مضللة
يعيش في أفريقيا أكثر من مليار نسمة يمثلون 15% من سكان العالم، وتسعى القارة إلى استغلال مواردها الطبيعية والبشرية التي لا تملكها قارة أخرى، وأن تتخلص شيئا فشيئا من صورة" القارة المظلمة". كانت أفريقيا مركزا للاستعمار الإمبريالي لقرون بسبب ثرائها، ومنذ تدخل القوى الغربية في القارة في القرن الخامس عشر لم تضعف قوة القارة السياسية والاقتصادية والاجتماعية قط ، لكنها زادت زيادة كبيرة . انفتحت شهية الغرب للعبودية ووفرة المواد الخام والسوق.وعلى الرغم من أن معظم الدول الأفريقية نالت استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية، فإن وضع القارة وصورتها لم يتغيرا، ففي عقد السبعينيات كان ينظر إلى أفريقيا بوصفها " قارة عالة " يجب على الغرب أن ينقل إليها الحضارة، وفي عقدي الثمانينيات والتسعينيات لم تعد القارة عالة فحسب، بل صُورت على أنها "قارة فقيرة غارقة في جميع أنواع المشاكل". عندما وضعت مجلة الإيكونوميست عنوان " القارة المظلمة" في عام 2000 لم تتغير صورة أفريقيا على عتبة القرن الحادي والعشرين. هذه الطروحات بعيدة كل البعد عن السياق التاريخي والتحليلي في شرح جذور المشاكل في أفريقيا، وتصف أفريقيا " المحتاجة " بالبدائية، والفوضى القبلية، والحروب الأهلية، والإرهاب، والاضطراب السياسي، والحكم الديكتاتوري، والجوع والأوبئة.
ترفض تركيا الاعتراف بالتاريخ الأفريقي الذي لم يكتب إلا من خلال الاستعمار والعبودية والتخلف، فالوجود الأفريقي الكبير في أمريكا الشمالية وأوروبا أثرى المجتمعات في القارتين بتنوع ثقافي فريد.
وبالإضافة إلى من يعيشون اليوم في فقر في أفريقيا، فإن من عاشوا بين القرنين الخامس عشر والتاسع عشر أجبروا على العبودية، وحتى عندما ألغي الرق في عام 1808 حرم الأفارقة من حقوق الإنسان الأساسية حتى عقد السبعينيات. كان مارتن لوثر كينج يقول " لدي حلم" بأنه في يوم من الأيام يجلس أبناء العبيد السابقين وأبناء أصحاب العبيد معا على مائدة الأخوة. لدي حلم بأن أطفالي الأربعة سوف يعيشون يوما ما في دولة لا يحكم عليهم فيها على أساس لون بشرتهم ، وإنما شخصهم وأفعالهم"، وكان لدى مالكوم إكس الاهتمام نفسه، لكن هذه الحركات الشرعية غير العنيفة أُسكتت بالعنف.
أفريقيا بحاجة إلى أصدقاء حقيقيين لا إلى مرشدين تحركهم المصالح
يقول المثل الأفريقي " المطر المتساقط في يوم واحد لا يخترق عمق التربة" وبالمثل فإن أفريقيا لا تحتاج اليوم إلى المؤسسات المالية الدولية وقروضها المشروطة التي تخلق علاقة التبعية. فبدلا من هذه الحلقة المفرغة التي عاشها بلدنا تركيا، فإن من الضروري دعم الشعب الأفريقي في إنشاء البنى التحتيىة الاجتماعية والاقتصادية والمؤسساتية التي تمكنه من استخدام موارده الخاصة وإدارتها. ويتطلب هذا من الدول المتقدمة أن تكون صادقة في جهودها دون أن تكون لها أجندة سرية. وفي هذا الصدد تعمل تركيا بإخلاص في أنشطة التعاون الإنمائي، وبعبارة أخرى لا تحاول تركيا أن تقيم نظام استغلال جديد في المناطق الجغرافية التي تنفذ فيها مشروعات مساعدة إنمائية.
على مدى سنوات قدمت الدول المتقدمة مليارات من السيولة النقدية إلى أفريقيا، لكن هذه الثروات استخدمت أساسا لغرض الحفاظ على نظام الاستغلال المؤسسي، وقمع الثورات التي يقوم بها السكان المحليون، والحصول على بعض الامتيازات لاستغلال ثروات الدول، وتحديد الأيديولوجية التي تنتهجها الدول الأفريقية. وفي حين تراكمت الأموال في أيدي جهات معينة، فإنها لم تصل قط إلى المتحاجين الحقيقيين، ولم تحقق تطورا ملحوظا، فعلى سبيل المثال، ووفقا لتقرير " أفريقيا تغذي أوروبا2010 " الذي أصدرته منظمة السلام الأخضر الدولية، فإن سفن الصيد الاوروبية الكبيرة تقوم بعمليات الصيد في مياه غرب أفريقيا التابعة لأفقر الدول الدول مثل السنغال وموريتانيا، من خلال توفير تحويلات مالية في مقابل الحصول على امتيازات. هذه الدول الأفريقية الأقل نموا التي دمر الصيد الجائر في مياهها أنواع الأسماك النادرة لا يمكنها أن تدخل دائرة المنافسة لأنها لا تملك التكنولوجيا المتقدمة، ومن ثم يؤدي ذلك إلى اختفاء صناعة صيد الأسماك المحلية، والمأساة الأكبر أن السكان المحليين الذين يصطادون بالزوارق والقوارب الصغيرة في مياه بلادهم يعيشون على حد الكفاف بسبب تراجع الثروة السمكية. وينطبق هذا أيضا على قطاع التعدين والزراعة وغيرهما من القطاعات.
إن مساعدات التنمية الحقيقية هي التي لا تسعى إلى إدارة النظام المؤسساتي والسياسي للبلد المضيف بأي شكل بحيث تساعد الدول الغنية على استغلال الموارد البشرية والطبيعية لخدمة مصالحها الخاصة ، وإلا تحولت هذه العملية إلى استغلال مستمر، وبالتالي يزداد البعض غنى، ويعيش الآخرون في براثن الفقر. في المقابل ترفض تركيا هذه الممارسات والآليات التي تدمر إمكانيات قطاع السوق والعمل في الدول الأفريقية، ولذلك فإنه ما لم تترك ثروة أفريقيا للشعوب الأفريقية ، فإن أهداف التنمية المستدامة التي اعتمدها قادة العالم عام 2015 ، والاتفاقات الدولية المتواصلة لن تسفر عن نتائج ملموسة.
وقد ساهمت المساعدات المقدمة من خلال المؤسسات الدولية أيضا في زيادة ثروة بعض البيروقراطيين بدلا من مساعدة المحتاجين، وقد غضت هذه المؤسسات الطرف عن حقائق التخلف فعينت خبراء ومدراء برواتب عالية. وقد أدى ارتفاع مستوى النفقات الإدارية إلى خلق فئة جديدة من السادة الذين يتغذون على الفقر. ولعل هذا هو السبب في أن تركيا تنقل مساعداتها مباشرة إلى المحتاجين دون تمييز بينهم على أساس الدين أو اللغة أو العرق. وبوضع احتياجات الناس في محور الاهتمام تنفذ المشروعات على أساس أولويات التنمية في بلدان الشراكة، وتحافظ في الوقت ذاته على النسيج الثقافي وأسلوب الحياة الموجودين في الدول الأفريقية.
تيكا تغير الحياة في أفريقيا
من بين 48 بلدا هي الأقل نموا في العالم هناك 34 بلدا أفريقيا يصل الدخل اليومي للفرد فيها إلى أقل من دولار واحد. ومنذ عام 2011 التزمت تركيا بتقديم 200 مليون دولار سنويا للبلدان الأقل نموا ، وقدمت خلال خمس سنوات ما مجموعه 1.6 مليار دولار، وفي عام 2015 صارت تركيا ثاني أكبر دولة مانحة للمساعدات الإنسانية في العالم متفوقة بذلك على كثير من الدول المتقدمة. وعلى الرغم من أنها تحتل المرتبة ال18 كأكبر اقتصاد في العالم، فإن تركيا تحتل المرتبةالأولى عالميا من حيث المساعدات الإنسانية التي تقدمها بالقياس إلى دخلها القومي، وعلى الرغم من المصاعب التي واجهتها تركيا في العام الماضي، فإن الإنجازات التي حققتها في العام الماضي ترسل رسالة مهمة للعالم مضمونها الدبلوماسية الإنسانية.
تنهج " تيكا" الوكالة التركية المسؤولة عن تنفيذ برامج المساعدة الإنمائية نهجا متعدد الأوجه في التنمية، فهي تركز على مشاريع البنية التحتية الاجتماعية، ولاسيما التعليم والصحة، ورعاية الأم والطفل، والمياه، والصحة العامة لرفع جودة الحياة في أفريقيا. أنشئت مدارس التدريب المهني والكليات والمختبرات لتدريب الاشخاص المؤهلين ورفع كفاءتهم، وأنشئت المرافق في القطاعات الإنتاجية، مثل الزراعة وتربية المواشي وصيد الأسماك ، وهي مرافق توفر فرص العمل للنساء والشباب والمتدربين. أما ما توفره الوكالة من العلاجات الطبية وما بنته من عيادات ومشافي ومراكز صحية في الصومال وبنين والسودان والنيجر وتشاد وكينيا وغيرها، فقد رفع من قدرة البلدان الأفريقية على مكافحة الأوبئة مثل الإيبولا والكوليرا. في كثير من الدول الأفريقية التي تفتقر إلى آليات الدولة نتقاسم خبرة مؤسساتنا في تطوير البنية التحتية المؤسساتية في أفريقيا، ويدرب آلاف من الموظفين الحكوميين الأفارقة في تركيا، وتنفذ العديد من الأنشطة من أجل تطوير البنى التحتية الإدارية الإدارية، مثل البلديات، ودور النساء، وملاجئ الأيتام، ورياض الأطفال. وإلى جانب ذلك يتم تحديث المطارات، وبناء الطرق، وتطوير البنية التحتية للنقل، وربط القارة بالعالم، كما يجري تحسين البنية التحتية للإعلام، وتقديم التدريب للكوادر الفنية حتى يصير صوت أفريقيا مسموعا بقوة أكبر في العالم، وأقيمت محطات إذاعية في جزر القمر وتونس ونامبيا وموزمبيق وأوغندا، وهذه المرافق توفر في اولقت نفسه مزيدا من فرص العمل، وتجعل شعوب تلك الدول على معرفة بالعديد من القضايا، مثل التعليم والصحة والثقافة.
إن أكبر مصدر للإرهاب هو النظام العالمي الجائر والفقر، حيث يمكن للتنظيمات الإرهابية مثل القاعدة وداعش وبوكو حرام أن تزيد قوتها في مناطق النزاعات مستغلة دفع قطاعات كبيرة من المجتمع نحو الفقر المدقع. وفي هذا السياق نذكر أن تيكا تتوجه إلى مناطق جغرافية محفوفة بالمخاطر لا يمكن أن يطأها أحد، وتنفذ هناك مشروعات مختلفة تحول بين وقوع الجيل الشباب في براثن الإرهاب، وتدعم النساء والعجائز في معالجة آثار الإرهاب.
إن الجهود التي تبذلها تيكا مستمدة من قيم حضارتنا، وتقدم نهجا جديدا يمكن أن يطلق عليه " النموذج التركي في المساعدة الإنمائية" ، وهذا النهج يكافح من أجل المناطق الجغرافية المغبونة، وُيمكّن الدول من الوقوف على قدميها، كما هو الحال في أفريقيا. وهذا هو السبب في أن رسالة الرئيس أردوغان بأن العالم أكبر من خمسة، وجدت استجابة قوية في قلوب الناس في جميع أنحاء العالم بمن فيهم الأفارقة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس