سعيد الحاج - المعهد المصري
ساعات قليلة تفصل تركيا عن أهم استفتاء شعبي على تعديل دستوري في تاريخها الحديث والمعاصر، يوم الأحد 16 أبريل 2016. فقد مرت تركيا منذ انقلاب 1960 بستة استفتاءات شعبية على تعديلات دستورية، لكن التعديل الحالي يتضمن تغيير نظام الحكم فيها من برلماني إلى رئاسي، وهو تغيير جذري لا بد أن تكون له انعكاساته على مساراتها المستقبلية.
حدث بهذا الحجم سيلقي بظلاله على الكثير من الملفات، من الاقتصاد إلى الأمن، ومن السياسة الداخلية إلى السياسة الخارجية، ومن عمل الحكومة إلى العلاقة بين الرئيس والبرلمان، ومن أداء المعارضة إلى ثقل الأحزاب السياسية المختلفة في المعادلة الداخلية. الأهم أن الارتدادات والتحديات ليست مقتصرة على إحدى النتيجتين (الإقرار أو الرفض)، بل لكل نتيجة تحدياتها الخاصة بها، سيما وأن استطلاعات الرأي حتى الآن -رغم عدم إمكانية الثقة بنتائجها -لا تعطي فارقاً واسعاً ومريحاً بينهما، بل تتوقع تقدماً بسيطاً للموافقة على التعديل الدستوري.
أولاً: في حال إقرار التعديلات الدستورية:
ستمر تركيا في فترة انتقالية حتى تاريخ الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر 2019، تاريخ بدء تطبيقه الرسمي مع الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المتزامنة كما تنص المادة رقم 17 من التعديل الدستوري. تشمل هذه الفترة الانتقالية إصدار البرلمان التركي لـ"قوانين المواءمة" التي ستعنى بما يجب تعديله أو صكه من قوانين ومواد للانتقال السلس من النظام البرلماني للرئاسي خلال فترة ستة أشهر من إعلان نتيجة الاستفتاء.
واستثناء لذلك، ثمة مادتان لن ينتظر تطبيقهما عام 2019 بل سيسريان فوراً بعد الاقتراع، وهما انتخابات "هيئة القضاة والمدعين العامين" خلال شهر من إعلان النتيجة والسماح بعضوية الرئيس في حزبه السياسي التي يمكن تطبيقها بشكل فوري.
سيعني ذلك أن الرئيس أردوغان سيعود لحزب العدالة والتنمية، وهي عودة لن تتأخر كثيراً وفق ما أعلن رئيس الوزراء ورئيس الحزب الحالي بن علي يلدرم. ولأنه من غير المتوقع أن يعود أردوغان عضواً عادياً في حزبه الذي أسسه وقاده لسنوات طويلة، وأن يكون هناك من يرأسه في الحزب، في حين هو رئيس الجمهورية، فمن الطبيعي أن يعود الرجل لرئاسة الحزب، وهذا سيتطلب بطبيعة الحال مؤتمراً استثنائياً للحزب الحاكم لتغيير قيادته، وهو استحقاق مُهم بكل الأحوال، وليس مجرد خطوة شكلية أو بروتوكولية.
من جهة أخرى، سيكون من المنطقي توقع ارتدادات داخل الأحزاب السياسية التي عارضت التعديل الدستوري وخسرت المنافسة، وخصوصاً حزب الشعب الجمهوري، الذي يعاني من تيارات داخلية متنافسة وعدم رضى عن رئيسه الحالي كمال كليتشدار أوغلو في انتظار فرصة سانحة لتغييره، وقد تكون الخسارة هذه المرة القشة التي تقصم ظهر رئاسته للحزب.
بيد أنه قد لا تلتزم المعارضة بتقبل الخسارة والإقرار بالنتيجة، إذ ثمة بعض الإشارات لاحتمالات تصعيدها للموقف سياسياً في البرلمان وجماهيرياً في الشارع. ولا ينسى المواطن التركي تهديد "كليتشدار أوغلو" المغلف بالتحذير قبل أشهر من أن النظام الرئاسي "لن يقر في تركيا إلا بإراقة الدماء". ثم قال زعيم المعارضة السابق "دنيز بايكال" في لقاء تلفزيوني إن تعديل الدستور يتطلب توافقاً واسعاً ويحتاج إلى نسبة موافقة تتخطى %70 لإقراره.
أيضاً، لا تمر تركيا بأفضل فترات علاقاتها الخارجية سيما مع شركائها الأوروبيين والولايات المتحدة الأمريكية، ويمكن بسهولة استشراف مطبات قادمة في العلاقة بالنظر إلى تقييم الأوروبيين للتعديل الدستوري من زاوية واحدة هي توسيع صلاحيات أردوغان (كشخص وليس كرئيس حتى).
وقد قال الناطق باسم الخارجية الأمريكية مارك تونر إن بلاده تتابع الاستفتاء في تركيا عن كثب وأنها "قلقة على الديمقراطية"، كما كانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قد صرحت بأن ملف عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي "سيبت فيه بعد نتيجة الاستفتاء" بما يشير إلى تهديد مبطن في حال إقرار النظام الرئاسي.
بيد أن الرغبة في البت بمسار انضمام تركيا للاتحاد ليست مقتصرة على الأخير، بل تجد تركيا نفسها مضطرة إلى حسم هذا الملف المستمر لأكثر من 50 عاماً دون نتيجة أو أي تقدم ملموس. وقد أشار أردوغان إلى ذلك حين تحدث عن فكرة "الجلوس مع الأوروبيين للتفاهم" في حال أقر التعديل الدستوري بنسبة عالية. وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو أيضاً قال إن بلاده ستقدم "العرض الأخير" على الاتحاد فيما يخص تحرير تأشيرة شينغن في حزيران/يونيو القادم 2017.
على المدى المتوسط و/أو البعيد، وفي ظل حالة الشعور بالقوة والاستقرار في تركيا، ستعود الأخيرة للاهتمام بالمحيط بشكل أكثر فعالية، وهو ما يعيد إلى الطاولة سيناريوهات معركة الرقة وإمكانية مشاركة أنقرة فيها، فضلاً عن تحذيراتها المتعلقة بمنبج في سوريا التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية وسنجار في العراق التي يرغب حزب العمال الكردستاني بالسيطرة عليها.
ويبقى الانعكاس الأهم على المدى البعيد، سيما بعد بدء تطبيق النظام الرئاسي في 2019، ما ستظهره الممارسة العملية المباشرة من ثغرات أو قصور أو حاجات مستجدة في النظام و/أو الدستور بحيث يمكن استدراكها بتعديلات دستورية أخرى ربما.
ولكي يكون النظام الرئاسي فاعلاً ومستقراً دون تغول ولكي يضيف لرصيد التجربة الديمقراطية التركية، سيحتاج المجتمع ومؤسساته المختلفة لأن ينتقل هو أيضاً إلى مرحلة جديدة مع التحول للنظام الرئاسي، بحيث يصبح الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني، أكثر تحرراً من الحسابات الحزبية فيقدمان مقاربات نقدية لعمل الحكومة والوزراء ومختلف المؤسسات.
هذا السياق الأخير ليس تفصيلاً على هامش النظام الرئاسي والتغير الكبير الذي ستشهده تركيا بل يقع في القلب منه، وهو مهم جداً لاستكمال مسيرة التطور الديمقراطي في البلاد ولكي يشعر المواطن بوجود الرقابة الفعلية وعدم الاستفراد، ولعل هذه النقطة -إلى جانب عمل البرلمان والقضاء -هي صمام الأمان والضامن لأن يكون النظام الرئاسي المرغوب عاملَ استقرار للبلاد والمجتمع والشارع وليس فقط للحكومات والمشهد السياسي والانتخابي.
ثانياً: في حال رفض التعديلات:
في المقابل، لا يرتب رفض التعديل الدستوري أي التزامات قانونية أو دستورية على الرئيس أو الحكومة، فهذا استفتاء شعبي على مواد دستورية وليس انتخابات رئاسية أو برلمانية، وعليه يستمر الرئيس والبرلمان والحكومة قانوناً على رأس أعمالهم حتى عام 2019 حيث الانتخابات الدورية الاعتيادية.
بيد أن هذا المسار سيُبقي على المشاكل البنيوية المتضمنة في الدستور الحالي، ويُبقي على السلطة التنفيذية برأسين، وهي وصفة لأزمات مستقبلية محتملة كما حصل دائماً في السابق، ما يعني أن حزب العدالة والتنمية سيعمل على تعديل آخر قريباً. فهل يسعى لذلك في إطار توافقي بتعديل بعض المواد المختلف عليها اليوم؟ أم يعود مرة أخرى لقيادة العدالة والتنمية كما يرجح البعض؟
أعتقد أن الموضوع ما زال سابقاً جداً لأوانه.
إن فشلُ أردوغان والحزب الحاكم في إقناع الناخبين بإقرار النظام الرئاسي، قد يُشجع حزب الشعب الجمهوري على التشكيك بشرعيتهما في الشارع التركي والمطالبة بانتخابات مبكرة لحسم الأمر، رغم أن الحزب يؤكد حالياً على أن سيناريو الرفض لن يشكل أي أزمات لتركيا (لتشجيع الناخبين على الرفض). ومن الصعب عملياً التنبؤ بموقف حزبي الحركة القومية والشعوب الديمقراطي إزاء هذا السيناريو المفترض، فكل منهما يعاني من مشاكل داخلية قد تفضي به للخروج من البرلمان في أي انتخابات قريبة، بسبب الفشل في تخطي العتبة الانتخابية (%10) المطلوبة لدخول البرلمان.
هذا التفصيل الأخير تحديداً، قد يدفع العدالة والتنمية نفسه (أو أردوغان) إلى الدعوة لانتخابات مبكرة، طمعاً في أغلبية برلمانية أفضل تتيح له صياغة دستور جديد أو تعديل دستوري مماثل عبر البرلمان في تركيبته الجديدة، رغم أن الحزب يؤكد بدوره اليوم أنه لا يفكر في انتخابات مبكرة.
التحدي في الانتخابات المبكرة أنه يزيد في ضبابية المشهد السياسي ويفتح باب التكهنات، الأمر الذي يشكل تحدياً لليرة التركية التي تتغذى على الاستقرار وتضعفها حالة السيولة أو عدم التيقن. كما أن هذا السيناريو قد يفتح المجال للضغط على تركيا من خلال افتعال أزمات أمنية و/أو اقتصادية كما حصل قبل محطات انتخابية سابقة.
أكثر من ذلك، ثمة تساؤل حول المسار الذي يمكن أن تخطه كوادر العدالة والتنمية غير الراضية عن مواد التعديل الدستوري في حال رفضه الشعب. إذ ليس خافياً أن بعض قيادات وكوادر الحزب لا مشكلة لديها مع النظام الرئاسي لجهة المبدأ لكنها متخوفة من مضمون التعديل فيما يتعلق بمبادئ فصل السلطات واستقلالية القضاء والرقابة على عمل الحكومة وغيرها، فهل تُعلي هذه الشخصيات من صوتها بعد الاستفتاء في حال الفشل، سيما وهي تعرف قوة أردوغان في الحزب ورصيده الكبير في الشارع التركي؟
خلاصة:
كما يبدو مما سبق ذكره، فإن تركيا على أبواب استحقاق لن نبالغ إن وصفناه بالتاريخي والحاسم، بغض النظر عن نتيجة استفتاء الأحد 16 أبريل 2017. ففي حال أُقر التعديل الدستوري أو رُفض ستدخل البلاد في مرحلة جديدة لها مساراتها وتحدياتها الخاصة بها، الأمر الذي يتطلب حذراً ووعياً وعملاً دؤوباً لئلا تتحول التحديات إلى مشكلات والتخوفات إلى أزمات (1).
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس