محمود عثمان - خاص ترك برس
في وقت مبكر من صباح يوم الاثنين 16 تشرين الأول/ أكتوبر بدأت وحدات من الجيش العراقي مدعومة بميليشيات الحشد الشعبي الشيعية، هجوماً واسعاً على مدينة كركوك والمناطق المحيطة بها، وتمكنت من الاستيلاء عليها خلال بضع ساعات، بعد قيام قوات الاتحاد الوطني الكردي التابعة للجناح الطالباني بالانسحاب وإخلاء مواقعها، وترك قوات البشمركة مكشوفة الظهر!.
الهجوم الذي شاركت فيه قوات الحكومة العراقية وميليشيات الحشد الشعبي، جاء ردا على الاستفتاء الأحادي الذي قامت به حكومة إقليم شمال العراق، بعد فشل جميع المحاولات في إقناع رئيس الإقليم مسعود برزاني من أجل العدول عن قرار الاستفتاء أو تأجيله أو إيقاف العمل بموجب نتيجته على الأقل.
الرئيس الأمريكي ترامب أعلن أن "واشنطن لا تدعم أي طرف في المواجهات الدائرة في كركوك بين القوات العراقية والأكراد"!. مما أعطى الضوء الأخضر لحكومة العبادي بالتحرك والحسم العسكري. في مشهد يعيد للأذهان مسلسل التوريطات الأمريكية لحلفاء أمريكا وأصدقائها، ثم التنصل من الوعود في الوقت الحرج.
لا تزال مقابلة السفيرة الأمريكية في بغداد غلاسبي مع صدام حسين حاضرة في الذاكرة. عندما قالت له بأن أمريكا تتفهم شكاوى العراق من بعض دول الخليج، والحقوق التاريخية للعراق في الكويت. وهذا ما فهمه صدام حسين يومها بأن أمريكا لا تعارض عملا عسكريا عراقيا ضد الكويت. لكنه ما إن تدخل في الكويت، حتى شكل الأمريكان تحالفا دوليا ضده، ليبدأ مسلسل تدمير العراق وتقسيمه.
تذكر بعض المصادر أن الأزمة الخليجية الأخيرة، ما كانت لتتم لولا الضوء الأمريكي الأخضر لجهة عمل عسكري ضد قطر، وإلا فما فائدة حصار لا يقدم ولا يؤخر؟!. لكن كعادتهم غيًر الأمريكان موقفهم، فأعلن الرئيس ترامب أن الحوار هو الوسيلة الوحيدة لحل الأزمة بين الأشقاء الخليجيين!.
طبعا لا يمكن نسيان تصريحات الرئيس الأمريكي السابق باراك حسين أوباما بخصوص الأزمة السورية، حين قال بأن أيام بشار الأسد باتت معدودة، وأنه لا مكان لعائلة الأسد في حكم سورية، وأن استخدام السلاح الكيماوي خط أحمر، لا يمكن أن تسكت عنه أمريكا. ثم انقلبت جميع تلك الوعود إلى الجهة المعاكسة، من خلال الضغط على المعارضة السورية بضرورة قبول بشار الأسد رئيسا في المرحلة الانتقالية كأمر واقع. وعند السؤال عن مصير بشار الأسد بعد المرحلة الانتقالية، كان جواب الأمريكان ذاك أمر تحدده المفاوضات بينكم وبين النظام!.
عقلا لا يمكن تصور غياب حقيقة المواقف الأمريكية الزئبقية، التي ما تزال آثارها حيًة شاخصة حتى يومنا هذا، عن ذهن رئيس إقليم شمال العراق مسعود برزاني. كما أنه يعلم يقينا حجم النفوذ الإيراني في الساحة الكردية. ويدرك جيدا أن علاقات قاسم سليماني بكثير من القيادات والمكونات والحركات الكردية علاقات استراتيجية قديمة وليست تكتيكية عابرة. ابتداء من نفوذه في حزب العمال الكردستاني pkk، وليس انتهاء بحزب الاتحاد الوطني، وحركة التغيير "كوران"، وغيرها من القوى والشخصيات الكردية.
إذا كانت جميع المعطيات السابقة حاضرة وبقوة، لماذا غامر الرئيس مسعود برزاني بإجراء الاستفتاء، بالرغم من علمه يقيناً بأنه سيخسر حليفه الاستراتيجي الوحيد في المنطقة تركيا؟!
ثمة تقديرات وحسابات استراتيجية خاطئة دفعت رئيس إقليم شمال العراق مسعود برزاني إلى الوقوع في الخطأ التاريخي:
أولها: الاعتماد على الدعم الإسرائيلي
فقد عبرت إسرائيل عن ترحيبها الشديد بانفصال إقليم شمال العراق، وقيام دولة كردية هناك. ووعدت بالدعم اللامحدود للدولة الكردية الوليدة. ما دفع بعض الناشطين الأكراد لرفع العلم الإسرائيلي في بعض الاحتفاليات والمهرجانات بمناسبة الاستفتاء.
استطاعت الماكينة الإعلامية الإسرائيلية، مدعومة باللوبيات الصهيونية العالمية، الإيحاء بأن تل أبيب تأمر فتنفذ واشنطن على الفور دون اعتراض. بالطبع لا أحد ينكر طبيعة العلاقة المصيرية بين واشنطن وتل أبيب. لكن ذلك لا يعني حتما تطابق المصالح دائما.
على سبيل المثال تعهدت مؤسسات ولوبيات لبعض دول الخليج بتعطيل الاتفاق النووي الإيراني، وقبضت ثمنا لجهودها أكثر من مليار دولار. لكن النتيجة كانت الفشل، لأن الرئيس أوباما كان مصرا على إمضاء ذلك الاتفاق مهما كان الثمن.
ثانيا: الخطأ في حساب ردة فعل تركيا
تعتبر تركيا الشريك التجاري والاستراتيجي الأول بالنسبة لإقليم شمال العراق. إذ تكفي نظرة سريعة على بعض الأرقام الإحصائية للدلالة على عمق العلاقات بين أنقرة وأربيل. تصدير نفط الإقليم يتم عبر تركيا من حقول طق طق النفطية إلى ميناء جيهان التركي وذلك بموجب الاتفاقية النفطية المشتركة بين الإقليم وتركيا. تم توقيع شركة الطاقة التركية عقداً للعمل في 13 منطقة تنقيب، وتشمل العقود أيضاً بناء خط أنابيب جديد للنفط وأخر للغاز بهدف المساعدة في رفع صادرات الإقليم النفطية. قامت تركيا بفتح قنصلية لها في أربيل وهذا يعني اعترافها الضمني بالحكومة المحلية في الإقليم. تقوم الشركات التركية بتنفيذ جملة من المشاريع الضخمة في إقليم شمال العراق. إضافة إلى أن نحو 90% من المواد الغذائية في الإقليم تأتي من تركيا. كما أن الشركات التركية تكاد تنفرد في مجال المقاولات والعمران وإقامة مشاريع البنية التحتية، ويبلغ عدد الشركات التركية في الإقليم 1300 شركة فضلاً عن 30 ألف مواطن تركي يعملون هناك. خططت تركيا لإنشاء خط قطار سكة حديد بين أنقرة وأربيل وذلك في ضوء تطور العلاقات الاقتصادية، وسيربط المشروع المرتقب شبكة السكك الحديدية بأربيل والسليمانية بمدينة دهوك بشمال العراق ومن ثم بتركيا.
راهن مسعود برزاني على أن تركيا لن تتخلى عن هذا الحجم الهائل من العلاقات التجارية والاستراتيجية مع الإقليم. وربما قرأ بطريقة خاطئة، كلا من الاستدارة التركية نحو موسكو، وبعض التصريحات التركية بخصوص الأزمة السورية، والمرونة التي أبدتها الدولة التركية خلال عملية المصالحة مع تنظيم العمال الكردستاني، والبراغماتية حيال الملفات الساخنة المعقدة في المنطقة، على أنها حالة ضعف وتردد لدى القيادة التركية.
سقط من حسبان برزاني أن الأمن الاستراتيجي لتركيا فوق كل اعتبار، وخط أحمر لا يستطيع أحد كائنا من كان التفريط به.
ثالثا: الخطأ في حساب النفوذ الايراني
لم تتوقف إيران، من لدن ثورة الخميني، عن الاستثمار استراتيجيا في منطقة الشرق الأوسط والعراق على وجه. فقد استطاع الإيرانيون، بفضل عملهم الدؤوب ومشروعهم الطموح، وبسبب فقدان الرؤية والمشروع والبوصلة لدى بقية دول المنطقة، الإمساك بخيوط اللعبة في منطقة الشرق الأوسط، ونجحوا في بسط نفوذهم على أربع عواصم عربية حتى الآن.
تمكن الإيرانيون من بناء علاقات وثيقة مع حزب الاتحاد الوطني الذي أسسه جلال الطالباني، وكذلك مع حركة كوران المنشقة عن هذا الحزب. كما دعموا حزب العمال الكردستاني الذي يقاتل الدولة التركية منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي. بالرغم من حربهم ضد حزب العمال الكردستاني نفسه بنسخته الإيرانية.
هذا الاستثمار الاستراتيجي مكن الإيرانيين من توظيفه في الوقت الحرج. فاستطاعوا حسم معركة كركوك بسهولة ويسر، بسبب إمساكهم بخيوط اللعبة، ونجاحهم في تحييد تركيا.
رابعا: التعويل على العاطفة الشعبية الجياشة
لعل من أهم العوامل التي اعتمد عليها مسعود برزاني، الإجماع الشعبي الكردي على تحقيق الحلم التاريخي بإقامة الدولة الكردية، وربما يكون قد عول على نجاحه في إدارة الإقليم الذي تحول خلال سنوات معدودة إلى واحة أمان واستقرار وسط محيط مضطرب، ليصبح نموذجا حيا ناجحا لدولة المستقبل.
لا زالت عاطفة شعوب الشرق الأوسط الجياشة عاجزة عن تشكيل فعل ضاغط على صاحب القرار السياسي. ربما بسبب إصابتها بوباء الفرقة والانقسام والتشظي السائد في الساحة السياسية، مما يجعل الاعتماد عليها في الحسم أمرا غير ذي جدوى.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس