ترك برس

إسطنبول مدينةٌ ملونة يعيشُ فيها خليطٌ من الثقافات والناس والتاريخ والأديان والتقاليد، الأمر الذي جعلها موضوعًا للعديد من الصور التي يلتقطها يوميًا مصورون هواةٌ ومحترفون.

وبالرغم من وجود موضوعٍ يستحق التصوير في كل زاويةٍ وشارعٍ فيها، إلا أن مصورًا واحدًا استطاع أن يوصل للناس حقًا ما تشعر به هذه المدينة وكأنه يرى بعينها: آرا غولير، أو "عين إسطنبول" كما يلقّبه الأتراك، هو المصورُ الأكثر شهرةً في البلاد بسبب هذه المدينة القديمة التي استطاع أن ينقلها بشكلٍ حقيقي من خلال عدسة الكاميرا الخاصة به.

وُلد آرا لوالدين أرمنيين في إسطنبول بعد خمس سنواتٍ من تأسيس الجمهورية التركية. كان متجهًا في بداية مسيرته نحو الأفلام، وقد حضر العديد من دروس الدراما، إلى أن اكتشف أنه لا يشعر بشغفٍ حقيقي للسينما فانتقل إلى الصحافة، حيث بدأ بتحقيق إنجازاته في مجال التصوير الفوتوغرافي.

وبالرغم من أنه قد اكتسب شهرته الحقيقية من خلال الصور التي التقطها لإسطنبول في الفترة ما بين 1940 و 1980، إلا أن آرا زار العديد من الدول والمدن، والتقط لها العديد من الصور الخاطفة للأنفاس، الأمر الذي جعله واحدًا من "نجوم التصوير" السبعة على مستوى العالم، بحسب مجلة التصوير الفوتوغرافي البريطانية سنة 1968.

التقط آرا صورًا لعددٍ من رموز الفن في العالم، مثل بيكاسو ودالي وهيتشوك، وقد احترمهم جميعًا. لأجل ذلك، رفض آرا أن يطلق على نفسه لقب فنان، وليس ذلك تقليلًا من شأن التصوير الفوتوغرافي، ولكن احترامًا لأعمال الفنانين.

يقول آرا: "الفنُّ هو تحقيق الـ يوتوبيا في دماغ الشخص. لذا، لا يوجد فنٌّ في الحقيقة؛ فالفنُّ ينتهي في اللحظة التي يبدأ فيها، وليس أيُّ شخصٍ باستطاعته أن يكون (بيكاسو)". واليوتوبيا هي مجتمعٌ أو مكانٌ مُتَخيل، يمتلك صفاتٍ مثالية لسكانه ومواطنيه.

عندما يتحدث أسطورة التصوير التركي البالغ من العمر 89 عامًا، فإن كلماته تحمل المصداقية والحنين والإنسانية ذاتها التي تحملها صوره. بالنسبة لآرا الذي بدأ حياته المهنية كمصورٍ صحفي، فقد أطلق على مهنته اسم "مؤرخٌ مرئي"، فالتصوير الفوتوغرافي في نظره شكلٌ من أشكال التوثيق.

يقول آرا: "التصوير الفوتوغرافي قطعةٌ من الواقع. حيث يوجد التصوير، توجد حياة، ويوجد عمل". ويضيف: "أنا لا ألتقط الصور من دون الناس أبدًا، ولا أشعر بالحماس لالتقاط صورٍ للمناظر الطبيعية الجميلة".

وبالرغم من ولادته لعائلة أرمنية ثرية، كان يركز في صوره على الطبقة العاملة، وتجسدُ الصور التي التقطها في الفترة ما بين 1950 و1960 الإنسانية: نظرة خاطفة لطفل من بين القبعات العثمانية، والصيادون بقبعاتٍ مسطحة ينتظرون في قواربهم الخشبية، ورجالٌ يرعون الخيول بجانب الجدران البيزنطية المدمرة في المدينة، وامرأةٌ تغطي شعرها تمرر الخبز من خلال فتحات السفن. هذه اللحظاتُ اليومية التي عاشتها المدينة، والتي استولت عليها عدسةُ غولير، صنعت هالةً من النماذج الثقافية. كل شخصٍ في إطاره يبدو وكأنه يقول بضع كلماتٍ عن قصته، بالإضافة إلى بانوراما لحكاياتٍ ألّفتها إسطنبول.

حينما سئل آرا عمّا إذا كان الناسُ قد تغيروا خلال الخمسين سنةٍ الأخيرة قال: "إذا كنت تسأل عن الناس، فإنهم قد تغيروا بالفعل. إن العمّال ورجال الصيد الذين اعتدتُ أن ألتقط الصور لهم كانوا أناسًا أفضل". ربما هي نظرةُ كلِّ من عاش من العمرعشرات السنين، فلا بدّ وأنه قد شهد التغيير المستمر والبديهي على العالم، ولكن لا شك وأن التطور الهائل والهجرة الكبيرة من الريف إلى المدينة في العقود الأخيرة قد أحدثت تغييرًا كبيرًا على هذه المدينة ربما يفوق التغيير الذي حصل على غيرها من المدن. يقول آرا: "الناسُ تغيروا، والوجوه تغيرت، والعقول تغيرت. إن الحياة الفكرية التي كانت موجودةً هنا قد رحلت بالفعل".

ربما ينبع هذا الإحباطُ الذي يشعر به آرا تجاه الحاضر، من الحياة الفريدة التي عاشها والأشخاص الاستثنائيين الذين عاشرهم، حيث يقول: "بيكاسو، وتشاغال، ودالي، هذا النوعُ من الأشخاص لن يأتي مرةً أخرى. لقد كانوا أشخاصًا عظيمين قدّموا النفع للعالم، ولكنني لم أكن أذهب إليهم على أنهم فنانون، لقد كنتُ أجلسُ معهم كأصدقاء".

أما عن مستقبله، يثقُ آرا بمقدرة الكتب على الحفاظ على إرثه، فهو يرى أن الكتبَ هي التي جعلت بيكاسو يعيشُ معنا حتى الآن. وقد ساهم زميله فاتح أصلان بنشر سيرةٍ ذاتية خاصة به، بعنوان "عينٌ، وآلةُ تصويرٍ، وواقع". ولا شك في أن كتابًا كذاك، سيساهم كثيرًا في تعريف الناس على الحياة التي عاشها آرا غولير وكيف وُلد شغفُه وكيف لازمه طوال حياته.

وقد افتتح آرا مقهى باسمه في منطقة غالاطة ساراي في مدينته اسطنبول، وتوجد على جدران المقهى مجموعةٌ من أشهر الصور التي قام بالتقاطها وأكثرها إثارةً للإعجاب.

وقد اعتاد آرا على التقاط صورٍ للرئيس التركي أردوغان، وفي مؤتمر "الثقافة والفن" الذي أعدته وزارة السياحة والثقافة التركية سنة 2011، أراد أردوغان أن يكرّم المصور الكبير الذي اعتاد على التقاط الصور للآخرين، فقام بتبديل الأدوار والتقاط صورٍ له. وفي شهر كانون الأول/ ديسمبر سنة 2015، زار آرا الرئيس أردوغان في منزله والتقط له برفقة عائلته مجموعةً من الصور، كما قام بإهدائه كتابه الخاص "ذكريات إسطنبول القديمة" الذي حفظ فيه مجموعةً من الصور التي التقطها لإسطنبول.

وفي السابع عشر من شهر تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، تم الإعلانُ عن تغيير اسم شارع "توسباغ Tosbağa" في منطقة بيوغلو وسط إسطنبول وإطلاق اسم "آرا غولير Ara Güler" عليه تشريفًا وتكريمًا لهذا المصور الذي كان دائمًا وسيبقى عينًا لواحدةٍ من أجمل المدن على الإطلاق: إسطنبول. 

 

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!