د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس
يحتلّ المصلح الكبير خير الدّين باشا التّونسي (1820-1890م) مكانة مرموقةً في حركة الإصلاح الفكري والسّياسي في تونس خاصّة، وفي العالم العربي والإسلامي بشكل عام. ورغم ما كُتب حوله من مؤلّفات ودراسات وبحوث فإنّ ثمة جوانب مازال يكتنفها الغموض في حياته، وخصوصا أثناء وجوده في إسطنبول وتولّيه منصب الصّدارة العظمى، وعلاقته بالسّلطان عبد الحميد الثانّي (1842-1918م) وبأركان دولته، وقد ظلّ السّؤال مطروحًا لمدّة من الوقت حول ما إذا كان قد استقال من منصب الصّدارة العظمى أو تمّ عزله منه.
إنّ استدعاء السّلطان عبد الحميد الثّاني لخير الدّين باشا من تونس لكي يتولّى منصب الصّدارة في اسطنبول له علاقة بكفاءَته وتجربته وعلمه. فقد علم السّلطان من خلال المعلومات التي جَمعها عن هذا الرّجل أنّ له تجربة رائدة في الإصلاح في تونس، وأنّه حقّق نجاحًا ملموسًا في ذلك، كما أنّه يعرف مدى اطّلاعه على التّجارب الغربيّة في النّهضة الفكريّة والسّياسيّة والاقتصاديّة. فخير الدّين تنقّل في دول أوروبّية كثيرة ، وأقام في باريس بضع سنوات والتقى بعدد من سياسيّيها ونخبها الفكريّة، وفتح عينيه وعقله على النّهضة الغربيّة وأسرار هذه النّهضة، بل ونقل جزء من هذه التّجربة إلى تونس، وجسّدها من خلال إنشاء مشاريع تعليميّة واجتماعيّة واقتصاديّة، وحقّق قفزة نوعيّة في كثير من المجالات. وما ميّز خير الدّين في حركته الإصلاحيّة وتجربته هذه هو دعوته إلى الانفتاح على الآخر دون إحداث القَطيعة مع التّراث العربي الإسلامي.
من هذا المنطلق أراد السلطان عبد الحميد أن يستفيد من خبراته وتجاربه في إصلاح أوضاع الدّولة العثمانيّة التي خرجت للتّو من حرب قاسية مع الدّولة الرّوسية مُنيت فيها بهزيمة مؤلمة، وفُرضت بسببها عليها معاهدات قاسية.
شغل خير الدّين باشا منصب الصّدر الأعظم لفترة قصيرة (4 ديسمبر 1878-28 يوليو سنة 1879م)، بيد أنّه أدرك أن الظّروف في الآستانة لم تكن مناسبة أبدًا لكي يَمضي في تطبيق ما يحمله من مشاريع وأفكار وتصوّرات. وهذا ما تكشفه بوضوح إحدى الوثائق التي تمّ العثور عليها في الأرشيف العُثماني التّابع لرئاسة الوزراء التّركيّة. فهذه الوثيقة المؤرخة بتاريخ 27 رجب سنة 1296هــ/ الموافق لــ 17 يوليو/ تموز سنة 1879م تكشف أنّ خير الدّين باشا قد قدّم طلبًا للسّلطان عبد الحميد الثاني يلتمس فيه إعفاءه من منصبه، ولم يمض على تعيينه فيه أقلّ من عام واحد.
تم تقديم هذا الطلب بتاريخ 16 يوليو سنة 1879م. ويذكر خير الدّين في مذكرته أنه طلب توفير جملة من الشّروط لكي يتمكّن من القيام بمهمّته على الوجه الأكمل، غير أنّه عندما لم يُستجب لطلبه وجد نفسَه مضطرًّا لتقديم استقالته، وفي انتظار الاستجابة لطلبه فسوف يواصل القيام بمهامه كالمعتاد.
ويبدو أن قبول هذا الطّلب تأخّر نحو 12 يومًا، فقد استمرّ في مهمّته حتّى 28 يوليو 1879م تاريخ تخلّيه عن وظيفته. وبعد استقالته عُرض عليه منصب الصّدارة لمرّة ثانيةٍ وثالثة تقديرًا لكفاءته، غير أنّه رفض هذا التّكليف. ذلك أنه كان ينبغي أن يُوجد تواؤم بين عقليّته وبين العقليّة التي كانت سائدة في الدّولة في تلك الفترة، والحال أنّ ثمة اختلافًا حقيقيًّا بين الطّرفين.
لقد تبيّن خير الدّين باشا مواقع الخَلل في الدّولة العثمانية وأراد إصلاح هذا الخلل، وقدّم في ذلك إلى السّلطان عبد الحميد الثاني لوائح مفصّلة (انظر الوثيقة Y. EE 80/32 ) وعندما أدرك أنّه غير قادر على النّجاح في مهمّته لم يتمسّك بالبقاء في الصّدارة العظمى.
أراد خير الدّين باشا التّونسي أن يُحدث تغييرات حقيقيّة في مجالات التّعليم والمؤسسات القَضائية، غير أن مُقترحاته لم تجد آذانًا صاغية لدى الموظّفين في هذه المجالات، خصوصًا وأنّ تكوينهم كان تكوينًا تقليديّا لم يستطع تجاوز الموروثات في العمل والإدارة. أمّا هو فقد رأى بأمّ عينيه، وعاين بنفسه في أقطار أوروبّية كثيرة زارها من قبل تَجاربَ عصريّة ناجحة قفزت بهذه الدّول، في وقت قياسي إلى مصافّ الدّول المتقدّمة. ولا شكّ أنّ العامل الأساس الذي صنع منه إنسانًا مختلفًا هو وجوده في مكان بعيد عن إسطنبول، هناك في تونس. وكذلك بقاؤه في فرنسا، تلك البلاد التي كان كلّ شخص يرغب في الإقامة بها في تلك الفترة. ولمّا علم خير الدّين التّونسي أنّه لن يكون بوسعه تطبيق ما يريده، وأنّ طبيعة النّظام لن تسمح له بتمرير ما يَرغب فيه استقال من منصبه.
ربّما كان السّلطان عبد الحميد صادقًا في رغبته في الاستفادة من خبرة هذا الرّجل القادم من تُونس، لكن البيئة التي كان خير الدّين يشتغل في إطارها بيئة مُكبّلة لطمُوحه تسيطر عليها نُخب تنظر بعين الرّيبة إلى رجل نشأ في بيئة غير بيئتها، وتلقّى ثقافة مختلفةً تمامًا عن الثّقافة التي تلقّوها. ولو أنّه لو لمس من بقية رجال الدّولة استعدادًا للاستفادة من إمكانياته شأن السّلطان فأغلب الظنّ أنّه لم يكن لِيستقيل.
استقال خير الدين باشا التّونسي من وظيفته، لكنّه لم يغادر إسطنبول حتّى وفاته، لأنّه كان يدرك أنّه من أجل تقديم الفائدة للعالم الإسلامي أو لتونس أو لأيّة جهة أخرى لابدّ أن يستقر في إسطنبول مركز الدّولة العثمانية ومركز العالم الإسلامي، ويكون مؤثّرًا هناك، قريبًا من السّلطان، على صلةٍ به. ولهذا السّبب كان يدوّن أفكاره ويكتبها من أجل إيصالها إلى أوسع شريحة من النّاس. كما أنّ السلطان عبد الحميد فضّل أن يبقيه قريبًا منه يستشيره في كثير من شؤون الدّولة من ناحية، وكذلك حتّى لا يكون خروجه من إسطنبول مصدر قَلق له بسبب ما يتمتّع به الرّجل من صيت وتأثير في الأوساط الغربيّة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس