ترك برس
في منتصف شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي أصدر مكتب المدعي العام في إسطنبول مذكرات توقيف بحق موظفين تركيين في القنصلية الأمريكية في إسطنبول، واتهمهما بالتورط في محاولة الانقلاب الساقط في تموز/ يوليو 2016 ضد حكومة الرئيس، رجب طيب أردوغان. وفي الأول من كانون الأول/ ديسمبر الجاري أصدر الادعاء التركي مذكرة توقيف بحق غراهام فولر، نائب الرئيس السابق لمجلس الاستخبارات الوطني التابع للاستخبارات الأمريكية (CIA).
وجاء في مذكرة الاعتقال أن فولر كان موجودا بالقرب من إسطنبول في فندق بجزيرة بويوك أضا ليلة محاولة الانقلاب فى اجتماع مع مسؤول سابق في المخابرات المركزية الأمريكية هو هنري باركي.
ويشير وليام إنجدال، المؤرخ والكاتب الأمريكي البارز، في مقال نشره موقع "نيو إيستيرن أوتلوك" إلى أن ما يلفت النظر في هذا الاتهام درجة تورط فولر مع فتح الله غولن زعيم تنظيم فيتو المتهم بتدبير محاولة الانقلاب، الذي يعيش في منفاه في ولاية بنسلفانيا منذ عام 1998 بعد اتهامه بالخيانة.
"فولر يصف فيتو بأنها أحد وجوه الإسلام المشجعة"
في يوليو 2016، وبعد أقل من أسبوع من اتهام أردوغان لشبكة غولن التركية الواسعة بتدبير محاولة الانقلاب، وباستخدام شبكة من كبار ضباط الجيش الذين تم تجنيدهم في منظمة غولن، كتب فولر مقالا نشره موقع هافينغتون بوست بعنوان "حركة غولن ليست طائفة دينية" كال فيه المديح والثناء لغولن، ووصف شبكة الخدمة الغولانية بأنها "واحدة من أكثر الوجوه تشجيعا للإسلام المعاصر في العالم" مستبعدا أن يكون غولن العقل المدبر وراء محاولة الانقلاب.
واعترف فولر في مقاله بأنه دعم غولن رسميا للحصول على إقامة دائمة في الولايات المتحدة في عام 2006، وزعم أنه "لم يكن يعتقد أنه يشكل تهديدا أمنيا للولايات المتحدة".
ولكن اعتراف فولر بدعمه لبقاء غولن في الولايات المتحدة يغفل حقيقة أن دعمه لم يكن مجرد رسالة توصية رسمية للحصول على البطاقة الخضراء لرجل زعم فولر أنه قابله مرة واحدة. كان تأييد فولر لحصول غولن على بطاقة الإقامة الخضراء مؤثرا لدرجة أنه تمكن من تجاوز أي أصوات لمكتب التحقيقات الفدرالي، ومحامي لوزارة الخارجية الأمريكية والأمن الداخلي خلال جلسات الاستماع.
غولن عضو في شبكة غلاديو
تعود العلاقات بين فتح الله غولن ووكالة المخابرات المركزية إلى ثمانينيات القرن الماضي، عندما جُند غولن ليعمل ناشطا في شبكة "غلاديو" التركية اليمينية التي أطلق عليها اسم "Counter-Guerrilla". وكان غولن يبث خطاباته على إذاعة أوروبا الحرة التي تمولها وكالة المخابرات المركزية في المناطق الإسلامية في الاتحاد السوفيتي.
ويلفت إنجدال إلى أن أعضاء في شبكة غلاديو التركية كانوا مسؤولين عن سلسلة من الهجمات الإرهابية المتطرفة التي ضربت تركيا، ودبروا انقلابا عسكريا دمويا بدعم من الولايات المتحدة عام 1980. ولكن فولر وقع في زلة لسان خلال دفاعه عن غولن في مقاله، حيث كتب "حتى أنه، أي غولن، شعر بأنه مضطر لدعم الانقلاب العسكري على الدولة في عام 1980 من أجل الحفاظ على الدولة...".
ويقول إنجدال في مقاله إن الانقلاب الذي دبرته أمريكا عام 1980، كما يعلم فولر، أقام دكتاتورية عسكرية بقيادة الجنرال كنعان ايفرين، اعتقل خلاله 650 ألف شخص، وحُوكِمَ 230 ألف شخص، وأغلقت جميع الأحزاب السياسية والنقابات والمؤسسات، وقتل 171 معتقلا، وتعرض مئات الآلاف للتعذيب، وما زال الآلاف مفقودين. وفي وقت لاحق من الانقلاب ذكر مسؤول سابق في الاستخبارات الأمريكية أن أحد مساعدي الرئيس، جيمي كارتر، أبلغه أثناء حدوث الانقلاب قائلا: "لقد فعلها أولادنا". وقد أيد "غولن المسلم المسالم" هذا الانقلاب الوحشي الذي دبرته السي آي إيه.
علاقة غولن بمعلمي الإنجليزية التابعين للسي آي إيه في آسيا الوسطى
خلال الفوضى التي سادت دول آسيا الوسطى في التسعينيات بعد تفكك الاتحاد السوفيتي استخدمت وكالة الاستخبارات المركزية غولن وصورة الإسلام المعتدلة لبناء إحدى أكبر شبكات التخريب التي امتدت إلى كامل ما يسمى بالمنطقة التركية في جمهوريات آسيا الوسطى السوفياتية السابقة، بما في ذلك أوزبكستان وقيرغيزستان وحتى فى منطقة شينجيانغ التي تتمتع بالحكم الذاتي في الصين.
وفي عام 2011، نشر مسؤول سابق في الاستخبارات التركية، ومستشار رئيسة الوزراء في التسعينيات تانسو تشيلر، كتابا صدر باللغة التركية. وكشف غونديش في كتابه أنه خلال عقد التسعينيات كانت مدارس غولن في الدول الآسيوية التابعة للاتحاد السوفيتي السابق توفر قاعدة لمئات من وكلاء وكالة المخابرات المركزية تحت غطاء "معلمي اللغة الإنجليزية". ووفقا لغونديش، فإن مدارس غولن الواقعة في أوزباكستان وقيرغيزستان وحدهما آوت ما يقارب 130 عميلا تابعا لوكالة الاستخبارات الأمريكية.
كانت منظمة غولن نشطة فى زعزعة استقرار الجمهوريات الإسلامية المستقلة حديثا عن الاتحاد السوفيتي فى عام 1991. وقد وصف أحد المصادر الرسمية لمكتب التحقيقات الفدرالي السابق، غولن بأنه "أحد الشخصيات الرئيسة في عمليات وكالة المخابرات المركزية في آسيا الوسطى والقوقاز".
وحتى فولر نفسه اعترف بأن منظمة غولن كان لديها نحو مليوني عضو في تركيا عشية انقلاب يوليو 2016. وقد تسللوا بشكل منهجي إلى المؤسسات السياسية وسيطروا إلى حد كبير على القضاء والتعليم الوطني والجيش. وعلاوة على ذلك، اعترف هنري باركي، زميل فولر في وكالة المخابرات المركزية، بأنه كان موجودا في إسطنبول ليلة الانقلاب.
وتقول السلطات التركية إن لديها الآن أدلة على أن فولر كان موجودا في إسطنبول أيضا ليلة الانقلاب، وغادرها إلى اليونان بعد أن اتضح فشل الانقلاب. وذكرت الأنباء أن مكتب المدعي العام في إسطنبول اتهم فولر بأنه كان على اتصال مباشر بالمسؤول السابق في المخابرات المركزية الأمريكية هنري باركي والمشتبه فيهم الآخرين المشاركين فى محاولة الانقلاب.
وعندما نقرأ كلمات فولر تعليقا على مذكرة التوقيف التي صدرت بحقه، يتولد لدى المرء انطباع بأنه كان شخصية صغيرة في وكالة المخابرات المركزية، فقد كتب يقول:
"خدمت مرة واحدة فقط في تركيا... ضابطا صغيرا في قاعدة وكالة المخابرات المركزية في إسطنبول في منتصف ستينيات القرن الماضي. التقيت غولن مرة واحدة بالضبط في حياتي، بعد سنوات طويلة من التقاعد من وكالة المخابرات المركزية، في مقابلة أجريتها معه قبل 15 عاما في إسطنبول".
ربما كان فولر ضابطا صغيرا في السي آي إيه في إسطنبول في الستينيات، لكنه لم يبق بعيدا عنها بعد أن غادرها. وبحلول عام 1982، عينته وكالة الاستخبارات المركزية رئيسا لمكتب الاستخبارات الوطنية في الشرق الأدنى وجنوب آسيا. وكان ذلك في السنوات الأولى من عملية الإعصار التي اعتمدتها وكالة المخابرات المركزية، والحرب السرية الواسعة في أفغانستان باستخدام المجاهدين وأسامة بن لادن لتجنيد المجاهدين لقتال الاتحاد السوفيتي التي أطلق عليها زبيغنيو بريجنسكي وآخرون فيتنام السوفيتية. وقد شارك غراهام فولر بالتأكيد في تلك الحرب.
غولن وفولر وجيوبوليتيك آسيا الوسطى
ويلفت إنجدال إلى أن فولر خلال عمله في مؤسسة راند للأبحاث ألف كتابا بالاشتراك مع بول هينز في عام 1993 بعنوان" الجغرافيا السياسية الجديدة في تركيا: من البلقان إلى غرب الصين". ويصف الكتاب بالتحديد الشبكة الجيوسياسية التي اتهم غولن بتشكيلها بالاشتراك مع وكالة المخابرات المركزية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991. وكان بول هينز أيضا شخصية رئيسية لوكالة المخابرات المركزية في الانقلاب التركي في عام 1980، وقد أثنى عليه فولر في اتصال هاتفي مع غولن.
وفي عام 2007 كتب فولر المسؤول عن العمليات في شرق آسيا والشرق الأوسط، كتابا بعنوان الجمهورية التركية الجديدة: تركيا كدولة محورية في العالم الإسلامي. وفي ثنايا الكتاب يكيل فولر المديح لغولن ولحركته "الإسلامية المعتدلة" فيقول:
"إن شخصية غولن الكاريزمية تجعل منه الشخصية الإسلامية الأولى في تركيا. لدى حركة غولن أكبر وأقوى البنى التحتية والموارد المالية من أي حركة في البلاد... وأصبحت الحركة دولية أيضا بفضل نظام المدارس البعيدة... في أكثر من 12 دولة من بينها الدول الإسلامية فى الاتحاد السوفيتي السابق وروسيا وفرنسا والولايات المتحدة".
لكن فولر عاد وأنكر في مقابلة مع صحيفة واشنطن بوست في 2011 معرفته المسبقة بزميله السابق في وكالة المخابرات المركزية، جورج فيداس، الذي شارك معه في التوقيع على رسالة إلى وزارة الخارجية الأمريكية لحثها على قبول طلب غولن الحصول على البطاقة الخضراء. وقال في المقابلة:
"لم أُوصِ بحصول غولن على البطاقة الخضراء أو أي شيء آخر. أما بالنسبة لجورج فيداس، فلم أسمع عنه أبدا ولا أعرف من هو".
ويتساءل إنجدال: "هل يتكبد غراهام فولر المسؤول البارز في السي آي إيه عناء التوقيع على رسالة من أجل رجل لم يلتق به سوى مرة واحدة فقط؟ هذا أمر غير منطقي أو معقول تماما."
ويخلص الباحث الأمريكي في ختام مقاله إلى أنه مهما تكن نتيجة الاتهامات التركية الموجهة إلى غراهام فولر وهنري باركي، بالتورط في محاولة الانقلاب، فمن الواضح أنها توجه اهتمام العالم إلى العلاقة بين وكالة المخابرات المركزية وتنظيم فتح الله غولن، وكشف عمليات السي آي إيه القذرة في تركيا. ولا عجب إذن أن يكتب فولر مقالا تحت عنوان مثير للشفقة "لماذا أصدرت تركيا مذكرة اعتقال بحقي؟".
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!