ترك برس
تناول الكاتب المتخصص في الشأن الإفريقي، أسامة جمعة الأشقر، أسباب الهجوم الشرس الذي تشنّه وسائل إعلام مصرية على السودان، والذي ازدادت حدّته عقب زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إلى الخرطون، واتفاقه مع نظيره السوداني عمر البشير، على ترميم جزيرة سواكن المطلة على البحر الأحمر.
ورأى الأشقر في مقاله المنشور على موقع شبكة الجزيرة، أن ما يجري بين البلدين بات يتحرك نحو التصعيد السياسي منذ زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للسودان، في 24 ديسمبر/كانون الأول الماضي، حيث جرى توقيع نحو 12 اتفاقية ذات طبيعة إستراتيجية: عسكرية وأمنية وسياسية وزراعية وصناعية وتنموية.
ثم كانت رحلة أردوغان إلى جزيرة سواكن على البحر الأحمر، وتوقيعه العديد من الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية والصحية، وحديثه المباشر عن تعاون عسكري سوداني/تركي، وإعلان الشراكة الإستراتيجية بين البلدين، والشائعات عن توقيع اتفاقية إنشاء قاعدة عسكرية تركية في البحر الأحمر، ثم اجتماع قادة أركان السودان وتركيا وقطر بالخرطوم أثناء هذه الزيارة.
وقال الكاتب إن هذه التطورات دفعت القيادة المصرية إلى إعلان تدخّلها في هذه الزيارة، عبر طريقتها المعتادة بإصدار التوجيهات للأجهزة الإعلامية التي تتحكم فيها المخابرات المصرية بفتح النار على السودان وتركيا، واتهام السودان بالتنكّر للعروبة وبيع أرضه للعثمانيين الجدد، وتجميع قوى الشر في السودان، والتحالف مع الإرهاب الإخواني المدعوم تركياً وقطرياً.
ورافقت ذلك موجة سخرية عالية تجاوزت حدود اللياقة والأخلاق، ووصلت إلى حد العنصرية وعدم الاعتراف بوجود دولة اسمها السودان وأنها تابعة لمصر، وهو أمر معتاد في الحملات الإعلامية المصرية على السودان منذ دهر طويل.
وبحسب الكاتب، تعامل السودان -كما يبدو- بصبر مع التجاوزات الإعلامية المصرية التي لا تتحرك إلا بتوجيهات عُليا ولا تتوقف إلا بتوجيهات مماثلة، ومع التوضيحات الدبلوماسية الكثيرة والاتصالات غير المعلنة بين الجانبين؛ فإن ذلك لم يفلح في إقناع السلطات المصرية بوقف الحملة أو تهذيبها.
بل استمرت في التصعيد والتطاول حتى اضطر السفير السوداني لدى القاهرة والمندوب الدائم لبلاده في جامعة الدول العربية عبد المحمود عبد الحليم إلى الخروج عن هدوئه الدبلوماسي المعهود، واتهام الإعلام المصري بالغوغائية وتسميم الأجواء، وبأنه وجد في زيارة أردوغان للسودان فرصة للنيل من بلده وخياراته، وتحقير قيادته وتاريخ أمته السودانية.
وقال عبد المحمود إن على هؤلاء إدراك أن السودان ليس جمهورية موز، وأن علاقاته الإقليمية والدولية ليست خصماً من رصيد علاقاته مع الآخرين، وهذا كله أدى إلى حملة إعلامية مصرية مركزة عليه لم تخلُ من إساءات بالغة.
وتابع المقال: دخل عنصر جديد في هذه السياسة هو الاستفزاز المتعمد بالإعلان عن سلسلة نشاطات رسمية على مستوى وزاري في حلايب وشلاتين، اللتين تطالب السودان بعودتهما إلى السيادة السودانية عبر التحكيم الدولي، وهو الأمر الذي ترفضه السلطات المصرية بشدة رغم تمريرها اتفاقية تيران وصنافير وإعادتهما للسيادة السعودية.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ فقد تأكد لدى السلطات السودانية قيام مصر بتوجيه طلب رسمي بإبعاد السودان من مفاوضات سد النهضة الثلاثية، حيث تعتبر الحكومة المصرية الموقف السوداني منحازاً إلى الموقف الإثيوبي؛ وهو الأمر الذي أغضب الإثيوبيين والسودانيين معاً، ولم تأبه القيادة السودانية للنفي المصري الرسمي لهذه الأنباء التي نشرتها الصحافة الإثيوبية في صفحاتها الأولى.
كانت السياسة السودانية تميل إلى ضبط النفس وعدم الانجرار للتصعيد المستفز، حتى تسرّبت أنباء تؤكد حدوث تجاوز عملياتي في نسق العلاقة بين السودان ومصر، حيث رصدت السلطات السودانية وصول دعم عسكري مصري مباشر إلى مجموعات سودانية شمالية متمركزة قرب الحدود مع دولة جنوب السودان.
ويعني ذلك أن القاهرة تستخدم أسلوب مخلب القط لتجريح السودان وتأزيم الجبهات المنطفئة مؤقتاً وإشعالها من جديد، وترافق مع هذا نشاط استخباري مصري كبير في الخرطوم وفي المناطق الحدودية بين السودان وإثيوبيا، إضافة إلى تسريبات ذات منشأ مصري بأن ثمة حشوداً عسكرية مصرية في منطقة حساسة مع الدولة العدو اللدود لإثيوبيا وهي إريتريا.
ورغم عدم دقة هذه الأنباء؛ فقد تعاملت معها الأجهزة المختصة بالكثير من الجدية، وجرى تحويل حالة إعلان الطوارئ في ولاية كسلا الشرقية المحاذية للحدود الإريترية والإثيوبية من هدف جمع السلاح غير الشرعي في الولاية، إلى إظهار الاستعداد والجاهزية لدى القوات المسلحة والأجهزة الأمنية السودانية.
وأعقب ذلك قرار والي ولاية كسلا المعلن يوم 6 يناير/كانون الثاني بإغلاق جميع المعابر الحدودية مع إريتريا، ابتداءً من 5 يناير/كانون الثاني وإلى أجل غير مسمى، دون إبداء الأسباب.
ولم يتوقف التدخل المصري عند هذا الحد؛ فقد نشط الجهد الاستخباري المصري للتواصل مع المعارضة الإثيوبية المسلحة، التي خمل نشاطها كثيراً نتيجة التعاون السوداني الإثيوبي، ويُعتقد -على نطاق واسع- أن القوات الإثيوبية والسودانية تمكنت من إحباط محاولات عسكرية عديدة لاستهداف سد النهضة بصواريخ دقيقة التوجيه، غير متوفرة لدى الطرفين السوداني والإثيوبي.
ويعني ذلك وجود طرف ثالث استطاع توصيل هذه الأسلحة إلى المنطقة، لإحداث فجوة أمنية في العمل الدؤوب لإنهاء إنشاءات سد النهضة الإستراتيجي.
وتحاول مصر الدخول بقوة على خط التوتر الذي يتسم بالخمود الآن بين الجارين اللدودين إثيوبيا وإريتريا، وإشعال مسببات الصراعالمرير بينهما عبر دفع إريتريا إلى ممارسة دور أكثر حيوية في إسناد المعارضة الإثيوبية، وتبنيها وإعطائها مساحة خلفية أكبر في أراضيها وإسنادها بالسلاح النوعي.
وهو ما تنظر إليه إثيوبيا بعين التهديد وتتحسب له بزيادة تنسيقها الأمني والعسكري مع السودان الذي يتمتع بعلاقات جيدة مع إريتريا، ومن خلال استعدادها لتطوير علاقتها مع التنظيمات الإريترية السياسية والمسلحة التي تحظى بمساحة محدودة من الحركة في إثيوبيا في هذه المرحلة.
ولم يتوقف الاستفزاز المصري عند هذا الحد؛ فقد تحرك النشاط الاستخباري والعسكري المصري مجدداً إلى دارفور عبر المجموعات السودانية المعارضة والمسلحة، التي تتحرك ضمن مليشيات خليفة حفتر القائد العسكري الليبي المتحالف مع القاهرة، والذي انتقد السودان بشدة مراراً، ولم ترشَح تفاصيل عن هذه التحركات الجديدة التي يُدار معظمها من مكاتب هذه المعارضة بالقاهرة.
الخطوة السودانية المتمثلة في استدعاء السفير المخضرم في القاهرة عبد المحمود عبد الحليم؛ تعدّ مرحلة فارقة في التعامل السياسي السوداني مع مصر، فهي من المرات القليلة التي تخرج فيها الخرطوم عن سياسة ضبط النفس تجاه الاستفزازات المصرية، ويبدو أنها لم تقبل التخديرات السياسية الموضعية التي تتحدث عنها الخارجية المصرية في الكواليس.
وهذه الخطوة -التي تحدث للمرة الأولى- تلمّح إلى قطيعة سياسية في مرحلة حساسة من أزمة سد النهضة، في ظل محدودية خيارات مصر، وتدهور علاقاتها مع السودان الذي يطالب القاهرة بالكف عن التدخل في شؤونه الداخلية، والاستجابة للتحكيم الدولي أو الجلوس على طاولة المفاوضات لحل الخلافات الحدودية، والانفتاح على الحلول الوسط.
وترى بعض الأوساط أن النظام المصري منزعج من النفوذ السوداني في شرق أفريقيا ووسطها، وينظر إلى ذلك بوصفه خصماً من النفوذ المصري في المنطقة، مع أنه ضعيف ومحدود في حقيقة الحال.
ويساعد الموقف الرسمي السوداني أن ثمة تعاطفاً شعبياً سودانياً كبيراً تجاه أي قرار يؤكد على الكرامة السودانية والسيادة والاستقلال عن مصر، لا سيما بعد الممارسات الإعلامية العنصرية المهينة التي تستخدمها وسائل الإعلام المصرية الرسمية والخاصة مع الشعب السوداني، أثناء هجومها على الحكومة السودانية وقيادتها.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!