د. علي حسين باكير - القبس الإلكتروني
في نهاية مارس الماضي، قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب: إنّ الولايات المتحدة ستنسحب قريبا من سوريا، وستترك للآخرين أن يهتموا بهذا الأمر. لفت ترامب في تصريحه ــــ آنذاك ـــ إلى انّ الولايات المتّحدة موجودة في سوريا من أجل سبب واحد فقط هو التخلّص من «داعش» وليس لأي سبب آخر، وأنّ هزيمة التنظيم تعني أنّ مهمة هذه القوات قد انتهت، مما يتيح الفرصة للقوات الأميركية للعودة للوطن، على حد قوله.
وعلى الرغم من أنّ كثيراً من الخبراء كانوا قد شكّكوا في مصداقية مثل هذه الخطوة، خاصّة انّها تتعارض مع تصريحات المؤسسات الأميركية الأخرى من بينها وزارة الخارجية، ووزارة الدفاع (البنتاغون) المسؤولة بشكل رئيس عن السياسية الأميركية في سوريا، فإنّه لا يجب استبعاد حصول مثل هذا الأمر، خاصّة أنّ ترامب كان قد ربطه لاحقاً بالحصول على الاموال من المملكة العربية السعودية مقابل البقاء لفترة أطول.
وفقاً للأرقام الرسمية التي تمّ الإعلان عنها سابقاً، يوجد في سوريا حوالي ألفي جندي أميركي ينتشرون في الغالب في شمال، وشمال شرق، وجنوب غرب سوريا عند الحدود العراقية والأردنية. هذا العدد ليس كبيراً لناحية المساحة التي يتنشرون فهيا، والتي تقدّر بحوالي ثلث مساحة سوريا، لكنّها مهمة جدّاً لحماية الميليشيات الكرديّة التي تشكّل رأس حربة الجانب الأميركي في تلك المناطق التي يتواجد فيها معظم حقول النفط السورية، والتي تشكّل معظم السلة الغذائية المهمّة لسوريا.
إستراتيجية تركيا
ويوفّر التواجد الأميركي في سوريا غطاءً مهمّاً ودرعاً حامياً لهذه الميليشيات الكرديّة، وهو الأمر الذي يعرقل تنفيذ الجانب التركي لخطّته التي بدأت تتبلور شيئا فشيئا مؤخراً، والمتعلقة بطبيعة التعامل مع الأوضاع في شمال سوريا.
وتقوم الاستراتيجية التركية في شمال سوريا على ثلاثة عناصر رئيسة، هي: إنهاء سيطرة الميليشيات الكردية على المناطق التي استحوذت عليها بدعم أميركي بعد ظهور «داعش» أو بدعم من نظام الأسد قبل ذلك، والعمل على إعادة عقارب الساعة الى الوراء في ما يتعلق بالتغييرات الديموغرافية على طول الخط الشمالي مع تركيا، وإرساء نموذج قابلٍ للحياة في المناطق التي يتم تحريرها، خالٍ من نفوذ نظام الأسد أو إيران.
لقد ساعدت عمليات «درع الفرات» على دفع الرؤية التركية قدماً الى الأمام خلال المرحلة الماضية، كما أمّن الانتصار السريع في عملية «غصن الزيتون» زخماً جديداً للجانب التركي، ممّا منحه المزيد من الثقة بالنفس وحسّن بشكل ملحوظ من وضعه الاستراتيجي إزاء المخاطر المقبلة من الملعب السوري من جهة، وإزاء غيره من اللاعبين هناك كروسيا وإيران والولايات المتّحدة من جهة أخرى.
يؤمن صانع القرار في تركيا بأنّ استراتيجية الولايات المتّحدة الفاشلة في سوريا ستجلب المزيد من الكوارث للشعب لسوري ولتركيا أيضاً، ما لم يتم تصحيحها، وهو ما يتطلّب التوقف عن دعم الميليشيات الكرديّة، والعمل على سحبها من المناطق التي كانت قد وعدت مراراً وتكراراً بالانسحاب منها من دون ان تفعل ذلك، وعلى رأسها مدينة منبج.
وعلى الرغم من الاتفاق الأولي الذي كان قد جرى بين الجانبين التركي والاميركي قبل فترة وجيزة من إقالة وزير الخارجية ريكس تيلرسون، فإنّه لم يحصل أي تقدّم عملي في الملفات الخلافية بين الطرفين، وعلى رأسها الملف السوري. ومع التغييرات التي حصلت مؤخراً في الإدارة الأميركية ومجيء كل من جون بولتون في منصب مستشار الأمن القومي، ومايك بومبيو في منصب وزير الخارجية، فان الصورة تبدو ضبابيّة جدّاً، لا سيما مع تجميد الجانب الأميركي لمجموعات العمل التي تمّ إنشاؤها لبحث الملفات الخلافية.
تسريع العمليات
في هذا السياق، يبدو الجانب التركي مصمّماً على الدفع قدماً باتجاه إنفاذ استراتيجيته في الشمال السوري، ولذلك فمن المفروغ منه أنّ انسحابه ـــ إنْ حصل ــــ لا سيما في شمال وشمال شرق سوريا، فسيسرّع من وتيرة تنفيذ الخطّة التركيّة. لكن في المقابل، قد تحمل هذه الخطوة معها بعض النتائج السلبية؛ كإعادة انبعاث «داعش» من جديدة نتيجة للفراغ الذي سيحصل مع رحيل القوات الأميركية من المناطق التي تسيطر عليها.
مثل هذا التطوّر، قد يعقّد من العمليات العسكرية التركيّة المنتظرة ويشتت من جهودها في مواجهة الميليشيات الكردية من جهة، وتنظيم داعش من جهة ثانية، والميليشيات التابعة لنظام لأسد من جهة ثالثة. أضف الى ذلك، فان نظام الأسد قد يعمل على ملء الفراغ، بالتعاون مع الميليشيات الكردية أو من دون ذلك، وهو ما يعني عودة الخلل الكبير في ميزان القوى من جديد لمصلحة مثلث: الأسد وإيران وروسيا، وهو ما سيقيّد من مساحة المناورة السياسية لدى الجانب التركي، ويقلل من أهمّية المناطق التي تمّ تحريرها في وقت سابق في الضغط على نظام الاسد او توسيع رقعة سيطرة المعارضة.
في ظل هذه المعطيات، لا يزال السيناريو الأفضل بالنسبة الى الجانب التركي هو إعادة واشنطن لحساباتها، والإقلاع عن استراتيجيتها السابقة، والعمل على استراتيجية كان الجانب التركي قد اقترحها منذ سنوات، وتقوم على التعاون بين الحليفين الكبيرين والاستفادة من طاقة مقاتلي الجيش السوري الحر في تأمين المزيد من الأراضي لمصلحة المعارضة، وبشكل يتيح خلق منطقة آمنة ويسمح بعودة اللاجئين، ويشكّل نموذجاً تتم من خلاله موازنة النفوذ الروسي ــــ الايراني، والضغط على نظام الأسد للرحيل وفقاً لمقتضيات الحل السياسي وبالاستناد الى مخرجات جنيف.
نظرياً، تحقيق مثل هذا الأمر ليس مستحيلاً، لكن من الناحية العملية، لا يزال التخبّط الأميركي سيّد الموقف، الامر الذي يهدد في حال استمراراه بدفع تركيا مضطرة باتجاه موسكو وطهران من أجل العمل على تأمين مصالحها، وللحد قدر المستطاع من التداعيات السلبية لسيطرة كل من روسيا وإيران على الملف السوري نتيجة للاستراتيجية الأميركية الفاشلة هناك، بالتحديد منذ عام ٢٠١١.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس