إسماعيل ياشا - العرب
الاعتداء الذي استهدف صحيفة شارلي إيبدو الأسبوعية الساخرة في باريس وأوقع 12 قتيلا، أكَّد لنا مرة أخرى ازدواجية معايير العالم الذي يوصف بـ «الحر» في التعامل مع الهجمات الإرهابية وأعمال القتل، وأن هناك دماء غالية تستحق الحزن والبكاء عليها طويلا، وأخرى رخيصة لا يبالي بها أحد.
قبل كل شيء، دعونا ندين الجريمة كما ينبغي، ليس إرضاء للغرب المنافق الذي لا يتردد في تأييد السفاحين في منطقتنا، بل لأن هذه الإدانة مما يوجبه ديننا وأخلاقنا وإنسانيتنا، ولكنها يجب ألا تنسينا أن هناك حقائق لا بد من الوقوف عندها حتى لا تغيب وسط موجات الغبار التي تثار من هنا وهناك لتحجب الرؤية. ومن أبرز تلك الحقائق أن هذه الجريمة لا يمكن ربطها بالإسلام والمسلمين حتى لو كان مرتكبوها من المسلمين وقاموا بها بدافع ديني.
بينما ينشغل العالم «الحر» بالاعتداء على صحيفة شارلي إيبدو ويتابع تداعياته، يموت أطفال ورضع في سوريا ولبنان بسبب البرد القارس ونقص الغذاء والدواء، وبسبب تخاذل العالم «الحر» الذي يكتفي بالتفرج على جرائم نظام إرهابي وإدانتها على استحياء. ولأن هؤلاء الأطفال لم يرتكبوا جريمة ولم يسيئوا إلى دين أحد، لا يجد موتهم ولن يجد ذاك الصدى الذي يتردد حاليا في وسائل الإعلام.
منذ وقوع الاعتداء على الصحيفة الفرنسية، يتعرض الإسلام والمسلمون لإرهاب بشع يستغل جريمة باريس التي ما زالت حولها علامات استفهام كثيرة وربما لن نعرف أبداً ملابساتها، وسط متابعة إعلامية لأحداث تشبه أفلام هوليوود وصيحات تطالب المسلمين بالتبرؤ والاعتذار من هذه الجريمة، مع أن المسلمين هم أنفسهم يتعرضون في إفريقيا الوسطى للمجازر والإبادة والجرائم ضد الإنسانية على يد الميليشيات النصرانية، وتحرق مساجدهم في قلب أوروبا من قبل نصارى متطرفين، بل قام المتطرف النرويجي أندريس بريفيك بقتل 77 وجرح أكثر من 300 من المدنيين العزل معظمهم أطفال صغار، ولا يربط إعلام العالم «الحر» بين هذه الجرائم وبين ديانة مرتكبيها النصرانية، ولا يطلب أحد من النصارى والكنائس الاعتذار من تلك الجرائم التي ترتكب باسم المسيحية.
يحاول بعض الكتّاب والمثقفين أن يقدموا لنا صحيفة شارلي إيبدو الفرنسية كأنها رمز لحرية التعبير، ويزعمون أنها كانت تسخر من جميع الأديان والمعتقدات دون استثناء، ويقولون إن وسائل الإعلام الغربية ليس لديها خط أحمر في حرية التعبير، إلا أن ما يقولونه كذبة كبيرة، لأن هذه الصحيفة الدنيئة المستفزة سبق أن طردت الرسام موريس سينيه لمجرد كاريكاتير رسمه.
الرسام الفرنسي موريس سينيه نشر كاريكاتيرا يسخر فيه من زواج نجل ساركوزي بوارثة يهودية ثرية واعتناقه اليهودية، معلِّقا أن نجل الرئيس الفرنسي السابق يعرف من أين تؤكل الكتف، وأنه سيصعد بسرعة بفضل هذا الزواج. وبعد نشر هذا الكاريكاتير، استغنت صحيفة شارلي إيبدو عن خدمات سينيه بحجة أن الكاريكاتير المذكور يحتوي على «نبرة معادية للسامية».
الصحيفة التي نشرت رسوما مسيئة إلى الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم وإلى معتقدات أخرى بكل جرأة ووقاحة، لم يتسع إيمانها بحرية التعبير لسخرية بسيطة من الصهاينة وطردت الرسام موريس سينيه لمجرد «نبرة» معادية للسامية، بعد أن عمل فيها لمدة 16 عاما، علما بأن سينيه حكم القضاء الفرنسي بتبرئته من تهمة «معاداة السامية» التي وجَّهتها إليه صحيفة شارلي إيبدو.
الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند قال في تعليقه على جريمة باريس إنهم يحاربون إرهابا وليسوا ضد دين بعينه، إلا أن الجميع متفق على أن هذه الجريمة سوف تغذي الإسلاموفوبيا في أوروبا وتجعل المسلمين المقيمين في الغرب يواجهون خطر الهجمات الانتقامية، وبالتالي يجب ألا يبقى ما قاله هولاند حبرا على ورق، وأن تتخذ السلطات الفرنسية كافة التدابير اللازمة لحماية المسلمين ومساجدهم وممتلكاتهم.
الدول الأوروبية مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بلجم العنصريين المتطرفين الذين ارتفعت أصواتهم عالية في الأيام الأخيرة، وإن كانت هناك أطراف داخل الحكومات الأوروبية تسعى إلى استغلال الإرهاب وتوظيف الإسلاموفوبيا لأغراض سياسية واقتصادية، فعليها أن تدرك جيدا أن من يزرع الريح يحصد العاصفة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس