أحمد الهواس - خاص ترك برس
المتتبع للعلاقات القطرية الخليجية منذ استقلال قطر 1971 وتحديدًا "السعودية، والإمارات، والبحرين" يجد أنّها كانت تتسم بالفتور تارةً، وبالتوتر تارة أخرى، حتى وصلت الأمور إلى الاصطدام الحدودي مع الجارة السعودية 1992!
ربما أنّ الجغرافية لعبت دورها في تحديد طبيعة تلك العلاقة فضلاً عن الثروة وكذلك الإدارة.
جغرافياً قطر محاطة بحدود برية مع السعودية فقط، وكان لها نزاع حدودي بحري مع البحرين حول جزر حوار انتهى بالتحكيم الدولي، وآخر سياسي مع الإمارات حين انسحبت هي والبحرين من الاتفاق الذي أفضى لتأسيس دولة الإمارات، وشكّل هذا ذاكرة سيئة في السياسة الإماراتية تجاه قطر، حيث عبّر عن ذلك يومًا الشيخ زايد بوصف قطر بـ"الفندق" نظرًا لصغر مساحتها، علماً أنّ قطر هي الأسبق في الإدارة والتعليم ومأسسة الدولة من جوارها ولا سيما الإمارات، بل إنّ قطر قبل مشروع الاتحاد كانت تتكفل بنفقات طلاب الإمارات المبتعثين إلى مصر للدراسة!
عوامل مختلفة جعلت السعودية تضع سياسة خاصة للتعامل مع قطر، سياسة تكمن في السيطرة عليها أو جعلها تدور في الفلك السعودي سواء في السياسة الخارجية أو حتى في الرؤية المذهبية، ربما أنّ هذه الأمور وغيرها "كضعف التنمية، وغياب الشفافية" كأنت سببًا للانقلاب الأبيض الذي قاده الشيخ حمد ضد والده 1995!
تغيير شبه شامل أصاب قطر، تغيير أقرب للثورة، فهو لم يشمل الرأس فحسب، بل شمل مختلف مناحي الحياة، لتكون قطر أمام تطور سيدفع بها للواجهة العربية والإقليمية، ويجعل منها لاعبًا رئيساً في السياسة العربية والإقليمية وجزءًا مهماً من السياسة الدولية!
هذا التغيير كان مزعجًا للجوار القطري، لهذا كان ثمة رغبة بإيقافه منذ البداية، وهذا ما دفع بالإدارة القطرية الجديدة للالتجاء إلى أمريكا الدولة العظمى الوحيدة في العالم، وصاحبة القرار الدولي فيه، لتقدّم لها قطر قاعدتين مهمتين "العيديد والسيلية" لتأمن على بقائها، ومن يراجع تلك المرحلة بجد أن ثمة اضطرارًا دفع بالقطريين للاستعانة بأمريكا، فهم في مواجهة خاسرة بكل المقاييس!
اعتمدت قطر في نهضتها على أسلوب أقرب للصدمة، صدمة تبدأ بمجتمعها، ومن ثم محيطها الخليجي، وبعدها العربي، فكان الإعلام المتميز العنوان الأبرز للنهضة القطرية، فقد شكّل الإعلام الجديد الصورة الحضارية لقطر، حيث برزت الجزيرة بأسلوب مختلف، وأداء غير مألوف عند المتلقي العربي، حيث كسرت الجزيرة قاعدة "الطلقة" وتعبئة الأخبار في ذهن المتلقي العربي ضمن أسلوب تعبوي أو موجه، لتقدّم أسلوبًا جديدًا في الأخبار والبرامج، وحطّمت القيود الإعلامية العربية!
في سنوات قليلة من إدارة واعية، بدأ النهوض القطري من خلال توظيف الثروة في خدمة الإنسان، وبدا ذلك واضحاً في البنية الفوقية من تعليم وصحة وخطط التنمية البشرية، والبنية التحتية من جسور وطرقات وخطط تنموية في كل المجالات جعلت المواطن القطري الأعلى دخلاً في العالم، ولديه تعليم وصحة هما الأفضل في المنطقة العربية!
امتازت السياسة القطرية الخارجية بأنّها أصبحت واجهة السياسة العربية، بعد ترهل وتراجع سياسي واضح في السياسة المصرية، وانكفاء سعودي، وغياب عراقي بسبب الحصار الخانق، هذه الأمور دفعت بالسياسة القطرية للواجهة حيث المؤتمرات واللقاءات تبدأ أو تنتهي بالدوحة، حتى باتت الدوحة تُنعت بأنّها عاصمة السياسة العربية متقدمة في ذلك على عواصم القرار العربي التقليدية!
نجاحات مختلفة لم تؤدِ إلى نسيان خلافات الماضي، بل ربمّا زادت فيها، وأكثر ما أجج تلك الخلافات أو عمّقها كانت "قناة الجزيرة" بتناولها لموضوعات سياسية وفكرية، وحقوق الإنسان، وقضايا تاريخية عملت الأنظمة العربية على جعلها من المحرمات على المتلقي العربي، ما دفع الحكومة القطرية أكثر من مرّة لتوجيه القناة بعدم فتح ملفات "معينة" تخص بعض دول الجوار!
لا شك أنّ الوعي العربي اختلف بعد ظهور الجزيرة، وباتت القناة مصدر الخبر الأول لدى المتلقي العربي، بل استطاعت الجزيرة أن تعيد تشكيل العقل العربي بعد عرضها لقضايا تهم المواطن العربي بشكل آخر، أو لنقل بسياق مختلف عمّا تعرضه أنظمة الحكم! وهذا ما حدا بالدول المجاورة "السعودية، والإمارات" للاستعانة بمجموعة إم بي سي للعمل على إطلاق قناة إخبارية "العربية" مطلع 2003 تعمل بأسلوب مقارب للجزيرة "شكلاً" بغية تخفيف سطوة الجزيرة ومن ثم العمل على تغيير النمط الذي صنعته هذه القناة! ولم يتوقف الأمر عند هذه القناة بل تبعتها قنوات اتخذت من الإمارات منطلقاً ولم تستطع أن تحقق الغاية في وقف مدّ الجزيرة، بل استخدمت تلك القنوات فيما بعد لتشويه الربيع العربي، والتسويق للأنظمة المنهارة أو المهددة بالثورات!
تميّز الموقف القطري بدعمه للثورات العربية، وهذا ما جعل فيما بعد قطر هدفًا للأنظمة العربية التي دعمت الثورات المضادة، وقد ضربت الإدارة القطرية مثلاً في التغيير الذاتي، حين تنازل الأمير حمد للأمير تميم عن الحكم في 25 حزيران/ يونيو 2013، ولم يتوقف الأمر عند الأمير بل شمل الإدارة القطرية بالكامل، وجاء الأمير تميم بإدارة جديدة، ولم تكد تتسلم الإدارة الجديدة مهامها حتى وقع زلزال سياسي في مصر لن تتوقف تداعياته السياسية على مصر بل سيشمل المنطقة العربية ككل وفي القلب منها دول الثورات.
ومع الانقلاب الذي هزّ العالم العربي وأعاد انتاج النظام العسكري في مصر، وأنهى أول تجربة ديمقراطية حقيقية في مصر، اتخذ هذا النظام الانقلابي من قطر عدوًا , وكذلك فعل مع تركيا، انقلاب دعمته الأنظمة التي كانت تخشى على نفسها من وصول الثورات إليها، ولا سيما نظاما الرياض وأبو ظبي، فبرزا داعمين للانقلاب في مصر، هذا الانقلاب الذي سيتولى تدمير الثورة الليبية، وإعادة الروح للنظام الطائفي في سورية، ويكون سببًا في تراجع الثورة التونسية، وتحول الربيع العربي إلى جحيم، جحيم طال الثائرين ودعاة التغيير، جحيم تخوّف به الأنظمة شعوبَها من أن ينتهي بها الحال إلى مصير شعوب دول ثورات الربيع العربي!
فاستهداف قطر بعد زيارة ترامب للسعودية وعقده لثلاث قمم أمريكية سعودية، وأمريكية خليجية، وأمريكية إسلامية، وحصوله على الأموال الضخمة، حيث يبدو هذا الاستهداف، والحصار بعد القرصنة لوكالة الأنباء القطرية كان أقرب للضوء الأخضر الأمريكي لذلك، فهذا الاستهداف يأتي لعدة أسباب، أهمها موقف قطر الداعم للتغيير، وهذا يتعارض مع توجه الأنظمة المجاورة والنظام الانقلابي المصري، وقطر لديها خزينة مليئة بالأموال يمكن أن تعوض ما تمّ دفعه لأمريكا، فضلاً عن إنهاء التجربة القطرية بكل تجلياتها، وتغيير نظام الحكم الحالي فيها، وإعادتها إلى سابق عهدها، كذلك إنهاء قوة قطر في التأثير على العقول العربية " قناة الجزيرة" أسباب تبدو منطقية تجمع بين الرياض، وأبو ظبي، والقاهرة، وحفتر، أو بمعنى أدق حلف الثورات المضادة، وتصبّ في خانة النظام الطائفي في سورية، لا سيما وأن انتقال الملف السوري قبل ذلك من قطر إلى السعودية أدى لتراجع الثورة السورية، وسيكون أهم الرابحين النظام الإيراني، حيث يؤدي حصار قطر إلى دفعها دفعًا إلى الانفتاح على إيران، وسيستخدم هذا الفعل ذريعة في أن قطر تنسق مع نظام الملالي الذي تخوض السعودية وحلفها حربًا مع ذراعه" الحوثيين" في اليمن! كذلك دفع قطر للتسلح وصرف المليارات على ذلك وجل هذه الأموال ستصب في الخزينة الأمريكية!
حصار قطر لم يكن عقوبةً على خلاف حول بعض القضايا، بل كان الغاية منه إنهاء قطر كدولة أو إنهاؤها كنظام وتجربة نتيجة ما ذكرنا من تراكمات عبر سنوات طويلة، ولهذا فقد ادعى قادة الحصار أنها داعمة للإرهاب وعلى علاقة مع إيران، وعلاقة مع الإخوان، ويجب عليها تنفيذ شروط الدول المحاصرة ومنها إغلاق قناة الجزيرة!
صورة لا يحتاج المواطن العربي لشرحها، فالسياسة القطرية ليست بلا أخطاء، ولكنها لا تقارن مع الأنظمة التي تحاصرها، وهي الأنظمة التي عملت وما زالت على القضاء على ثورات الربيع العربي وإعادة إنتاج الأنظمة السابقة بصورة أكثر بشاعة، مهما كانت التكلفة من دماء وخراب وتهجير!
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس