إسماعيل ياشا - عربي 21
استقبال رئيس الجمهورية التركي رجب طيب أردوغان، لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في القصر الرئاسي الجديد بجنود لبسوا ملابس عسكرية لـ16 إمبراطورية سابقة أسسها الأتراك على مر التاريخ، أثار ضجة كبيرة سواء في وسائل المحلية أم العالمية. واستغل المعادون لأنقرة بسبب وقوفها إلى جانب شعوب المنطقة في مطالبتها بالحرية والكرامة هذا الحدث - كما يفعلون في كل مناسبة - للسخرية من تركيا ورئيسها.
الفكرة، كما ذكرت وسائل إعلام تركية، صدرت من قيادة فوج الحرس الجمهوري التي اقترحت أن يلبس جنود الحرس أثناء مراسم الاستقبال في القصر الجمهوري ملابس الدول الـ16، وهي تلك الدول التي تمثلها النجوم الـ16 الموجودة في العلم الرئاسي حول الشمس التي ترمز إلى الجمهورية التركية.
ووافقت رئاسة الجمهورية على هذه الفكرة بعد دراستها، وقام خياطون عسكريون بتفصيل وخياطة الملابس العسكرية التي كان جنود تلك الدول السابقة يلبسونها.
وعلى الرغم من صدور الفكرة من العسكر، وعلى الرغم من لبس جندي واحد فقط من بين الجنود الــ16 ملابس جنود الدولة العثمانية، تحدثت وسائل إعلام كثيرة عن عودة الحرس العثماني إلى القصر الرئاسي. ولعلها اختارت هذا التضليل المتعمد لتتناسب الصورة المنشورة مع الصورة التي تحاول رسمها وتقديمها إلى الرأي العام، وهي تقول إن أردوغان يسعى لإحياء أمجاد الدولة العثمانية ليكون سلطانا مستبدا.
الجنود الـ16 ظهروا أيضا بملابس عسكرية لجنود الدول الـ16 السابقة في مراسم استقبال رئيس أذربيجان إلهام ألييف في القصر الرئاسي، ما يعني أن ظهورهم في مراسم استقبال عباس كان الأول ولكنه لن يكون الأخير، وأننا سنراهم بعد الآن في كل مراسم استقبال في القصر الجديد لرئاسة الجمهورية.
ما الذي ترمي إليه هذه الصورة الجديدة في القصر الرئاسي؟ ولماذا لبس جنود الحرس الرئاسي تلك الملابس؟ وما هي الرسالة التي تحملها؟ هذه الأسئلة وغيرها تشغل المهتمين بالشأن التركي، وكذلك المتخوفين من نجاحات أنقرة وصعود دورها في المنطقة. وهناك تفسيرات مختلفة يتناولها مغردون في موقع التواصل الاجتماعي الشهير "تويتر"، إلا أن معظم تلك التفسيرات ما هي إلا نتاج خيال أصحابها الواسع.
تركيا قطعت صلاتها بالماضي مع إعلان الجمهورية الحديثة لبناء دولة تركية جديدة تختلف عن سابقاتها، ولكن الجهود المبذولة على مدى أكثر من تسعة عقود لمحو ذاكرة الشعب التركي باءت بالفشل. وتبنى حزب العدالة والتنمية بعد توليه الحكم في البلاد سياسة تطبيع العلاقات بين الدولة والشعب وإزالة الأوضاع غير الطبيعية التي فرضت على الشعب التركي. وبدأت المياه تعود إلى مجاريها ولم تعد الدولة تنظر إلى شعبها كعدو يجب الحذر منه، ولم تعد كذلك ترى ماضيها كخطيئة مخجلة لا بد من نسيانها.
وما تشهده اليوم تركيا يعد من ثمرات سياسة تقوية الروابط بين الشعب التركي وجذوره من جديد، وتعزيز انتمائه لماضيه واعتزازه بهذا الماضي العريق كشعب استطاع أن يؤسس 16 إمبراطورية عظيمة على مر التاريخ.
لا شك في أن الصورة التي أشغلت الرأي العام ووسائل الإعلام المحلية والعالمية ليست خالية من معانٍ ورسائل، بل هي تحمل في طياتها رسالة للعدو والصديق، أن تركيا ليست مجرد كيان تأسس قبل عدة عقود، ولكنها امتداد لحضارة عريقة ضربت جذورها في عمق التاريخ وأسست إمبراطوريات حكمت مساحات شاسعة من العالم لمدة قرون.
وأعتقد أن هذه الرسالة يجب أن يقرأها جيدا كل من ينصب العداء لتركيا ويعتقد أن بإمكانه التغلب عليها والنيل منها بسياساته الصبيانية، لأن تركيا اليوم عادت إليها تلك الروح التي نجحت في تأسيس 16 إمبراطورية، لا لعودة الدولة السلجوقية أو الدولة العثمانية، وإنما لتؤسس لـ"تركيا جديدة" تستمد قوتها من ماضيها وحاضرها.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس