سعيد الحاج - عربي بوست
غالباً ما تكون الأزمات الكبيرة التي تمر بها الدول المختلفة محطات فارقة في تاريخها، فكثيراً ما تحدث انعطافة مهمة في علاقاتها وتحالفاتها ونهجها بعد أزمات بعينها، فضلاً عن أنها قد تعيد تقييم العلاقات مع مختلف الأطراف بناء على مواقفهم في ومِن تلك الأزمات. ولعل تركيا من الدول التي تفعل ذلك، كما حدث عشية المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016، التي اختلفت تركيا بعدها كثيراً عما كانت قبلها، وأعادت النظر في منظومة علاقاتها أو على الأقل بعضها، بغض النظر أعلنت ذلك أم لم تفعل.
والأزمة التي تمر بها العلاقات التركية-الأميركية حالياً، في بُعدها الاستراتيجي وليس فقط عَرَضها الاقتصادي، من أهم الأزمات التي مر بها الجانبان. وبالنظر إلى أن الولايات المتحدة قوة عظمى بما يعنيه ذلك من ثقلها في النظام الدولي وتأثيرها على بقية الدول، فإن الكثير من التقييمات بأنقرة تشير إلى أزمة غير مسبوقة ولها تداعياتها المرتقبة.
دأبت أنقرة في السنوات الأخيرة على التقارب مع موسكو كلما تأزمت علاقاتها مع واشنطن، وأضافت إليها مؤخراً فتح قنوات التواصل والتعاون مع الصين، فضلاً عن التحسن النسبي بعلاقاتها الأوروبية، في محاولة منها للبحث عن بدائل وموازنة الدور الأميركي. ورغم أن ذلك لا يعني قطيعة كاملة بين البلدين، تركيا والولايات المتحدة، ولا انزياحاً تاماً من تركيا من الغرب نحوة الشرق- فإن له دلالاته بخصوص طريقة تفكير القيادة التركية، وخصوصاً فكرة البحث عن بدائل وتعديد مصادر الاستثمار والتمويل اقتصادياً، والعلاقات والدعم سياسياً، والتعاون والتنسيق استراتيجياً.
وهنا، تلفت الأنظار بعض المواقف في العالم العربي والتي تسيَّد بعضَها حالةٌ من الشماتة المعلنة أو المضمرة، ويمكن لمس ذلك في لحن قول بعض وسائل الإعلام التي نادراً ما تخرج عن السياسة التحريرية المطلوبة منها في دولها. وهو موقف من الصعب فهمه أو وضعه في سياق منطقي، اللهم إلا التقييم ثم بلورة الموقف بناء على حالة الاستقطاب في المنطقة، التي لم تبق الكثير من الحكمة والتعقل.
في منطقة يُزعم فيها الانزعاج من تمدد إيران ونفوذها والعمل على موازنة هذا النفوذ ومواجهته، تبدو الإشارات القادمة من تلك العواصم إزاء الدولة الأهم والأكثر تأثيراً في موازنة إيران، ملتبسة ومشوشة على أقل تقدير. تملك أنقرة ميزات مهمة تجعلها ذات قيمة استثنائية في هذا السياق، فهي دولة إقليمية كبيرة وقوية، ولديها تاريخ من المنافسة في المنطقة مع إيران رغم أنها لم تتحول يوماً إلى صراع مباشر، وتملك هوية «سُنية» رغم أنها لا تتبع سياسات مذهبية أو هوياتية.
الأهم من كل ذلك أن تركيا تعمل منذ سنوات عديدة في المنطقة العربية بمنطق القوة الناعمة والتكامل الاقتصادي ومعادلة الربح للجميع، وحرصت على علاقات شبه متوازنة مع مختلف الأطراف، في الماضي مع محوري «الاعتدال» و»الممانعة»، واليوم مع الأنظمة والشعوب في كثير من الأحيان، مع وجود الاستثناءات.
حتى في الأزمة الخليجية التي اتخذت فيها أنقرة موقفاً واضحاً إلى جانب قطر فدعمتها سياسياً ومنعت خنقها اقتصادياً، كان في موقفها معنيان مهمان لسياق المقال، وفكرته الرئيسة: الأولى أن الانحياز التركي إلى قطر لم يأت على قاعدة استعداء الطرف الآخر وخاصة السعودية؛ بل إن مجمل التصريحات التركية دارت حول معنى واحد؛ وهو أن «السعودية هي الأخت الكبرى في الخليج، وعليها مسؤولية الاحتواء»، وفق تعبير أردوغان، لدرجة أن الأخير زار الرياض أكثر مما زار الدوحة خلال الفترة الأولى من الأزمة. وأما المعنى الثاني، فهو أن الموقف التركي بُني في جزء منه على الأقل على الموقف المتقدم والسريع الذي اتخذته قطر ليلة المحاولة الانقلابية الفاشلة، وهنا نعود لفكرة تثمين المواقف في الأزمات.
وعليه، ورغم كل ما يمكن طرحه من ملحوظات وتحفظات، هناك فرصة مهمة أمام الدول العربية لكسب ود أنقرة وتعاونها، من خلال الوقوف معها في أزمتها المالية وليس بالضرورة بالاصطفاف معها في الأزمة السياسية التي يمكن أن تدخل في مسار الحل لاحقاً، وحتى لا تظهر تلك الدول بمظهر من يواجه واشنطن. فالمواقف في مثل هذه المحطات لها ثقلها ودورها ولها تأثيراتها المستقبلية بكل تأكيد، ولعل الدرس الأهم الذي قدمته الأزمات الأخيرة في المنطقة هو الحكمة والتعقل وتكوين التحالفات ونسج التفاهمات حتى مع المختلفين للوصول لنتائج استراتيجية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس