سعيد الحاج - عربي 21
منذ 2013، تطالب تركيا بإنشاء منطقة آمنة في الشمال السوري دون أن تجد آذاناً مصغية من الولايات المتحدة الأمريكية و- لاحقاً - التحالف الدولي لمكافحة داعش، فضلاً عن الأطراف الأخرى المتداخلة مع القضية السورية.
أهداف أنقرة الرئيسة من تلك الفكرة كانت تأسيس منطقة "آمنة" بالمعنى الحقيقي المباشر للمدنيين من قصف النظام وتأهيلها لتكون صالحة لعودة/ إعادة اللاجئين إليها، فضلاً عن منع سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) وأذرعه العسكرية على تلك المناطق، وهي منظمات مصنفة على قوائم الإرهاب التركية لعلاقتها العضوية بحزب العمال الكردستاني، وما تعتبره أنقرة مشروعاً انفصالياً سيضرها هي أيضاً.
وعلى مدى كل تلك السنوات، كان الملف الأبرز الذي يوتر العلاقات على محور أنقرة - واشنطن هو دعم الأخيرة المتواصل والمضطرد لتلك المنظمات، رغم تحفظات واعتراضات أنقرة، شريكتها الاستراتيجية وحليفتها في الناتو، واعتبارها العنصر المحلي الأمثل لمواجهة داعش.ولهذا السبب تحديداً، رحبت أنقرة بقرار ترامب سحب قواته من سوريا، رغم إدراكها للتحديات الماثلة أمام هذا الانسحاب وموقف المؤسسات الأمريكية منه، باعتبار أنه قد يضعف ذلك المشروع إلى حد كبير. لكن الاستبشار التركي اصطدم بعدة تصريحات أمريكية على لسان كل من وزير الخارجية الأمريكي بومبيو ومستشار الأمن القومي بولتون؛ حول التحذير من "قتل تركيا للأكراد"، وتحذيرها من إطلاق عملية عسكرية ضد قوات سوريا الديمقراطية، والتأكيد على حرص واشنطن على حماية الأخيرة حتى بعد انسحابها.
هذه التصريحات وصلت ذروتها مع تغريدة ترامب الشهيرة التي هدد فيها بـ"تدمير تركيا اقتصادياً إذا ما هاجمت الأكراد" في سوريا، وهو تهديد (إضافة لتبدده نوعاً ما بعد ساعات إثر اتصال هاتفي مع اردوغان) تضمن رسالتين إيجابيتين لأنقرة، تتعلق إحداهما بضمان عدم استفزاز تلك القوات لها والثانية بإنشاء منطقة آمنة في الشمال السوري: الطلب التركي المرفوض أمريكياً حتى الآن.
ولذلك، فيما يبدو، قررت أنقرة التعامل بإيجابية مع طرح ترامب، وأبدت استعدادها لتسهيل انسحاب القوات الأمريكية والتعاون في إنشاء المنطقة الآمنة، وترى نفسها الطرف الأقدر والأحق بتأسيسها وإدارتها باعتبارها ستكون على حدودها وتمس أمنها بشكل مباشر. لكن كل ذلك لا يعني أن التفاعل التركي مع الفكرة مطلق، وأن أنقرة ليس لها تحفظاتها و/أو مخاوفها.
ثمة ذاكرة تركية حية وتجربة مريرة تتعلق بتطورات الأزمة في العراق، بدءاً من حرب الخليج الأولى في 1991، ووصولاً للغزو الأمريكي في 2003، والتي ترى أنقرة أنهما مكنا لحزب العمال الكردستاني من تحويل شمال العراق، وخصوصاً جبال قنديل، إلى منصة للتدريب وإطلاق العمليات العسكرية ضدها، وهو أمر لا تريد له أنقرة أن يتكرر في الشمال السوري.ومن هذا الباب تحديداً، كانت عمليتا درع الفرات وغصن الزيتون، التي تحيي أنقرة ذكراها السنوية في هذه الأيام، ولهذا السبب كذلك تعلن أنقرة عن خططها بخصوص منبج ثم مناطق شرق الفرات، ومن هذا المنطلق كذلك لديها تخوفاتها من المنطقة الآمنة المزمع إنشاؤها في الشمال السوري.
ما يقلق أنقرة، وإن لم تعلنه صراحة بينما يتبدى بين طيات تصريحاتها، هو أنه ليس هناك حتى الآن عرض أمريكي متكامل يتضمن كافة التفاصيل ويشرح رؤية أمريكية واضحة لما تريد فعله شمال سوريا. غياب التفاصيل حتى الآن يعني أن الأمور مفتوحة على عدة سيناريوهات، لا سيما في ظل تباين الآراء بين البيت البيضاوي وبعض المؤسسات الأخرى وفي مقدمتها البنتاغون.
الخشية التركية الحقيقية هي أن تتحول فكرة "المنطقة الآمنة" مع التنفيذ إلى "منطقة عازلة"، والفارق بين الاثنتين عظيم بالنسبة لها. فالمنطقة الآمنة تُنشأ لحماية المدنيين من أي خطر، لا سيما القصف والاستهداف من الأطراف المتحاربة، وتسهيل التدخل الإنساني وتقديم المساعدات. أما المنطقة العازلة، فهي مفهوم متعلق بفض النزاع بين طرفين متحاربين، وإنشاء منطقة خالية من السلاح بينهما بعد تراجع قوات الطرفين.الفكرة الأولى ستعني حماية المدنيين من أي هجوم، أما الثانية فستعني حماية قوات سوريا الديمقراطية من تركيا ومنعها من إطلاق العملية العسكرية التي تستعد لها مؤخراً. ولأن الفكرتين تتضمنان حظراً للطيران ورقابة على العمليات العسكريةـ وفي الأغلب قراراً من مجلس الأمن، تخشى أنقرة أن تتحول فكرة المنطقة الآمنة عملياً إلى منطقة عازلة تقيد يديها في سوريا وتشكل حماية وحصانة لقوات سوريا الديمقراطية، بشكل شبيه لما حصل في شمال العراق مع منظمة حزب العمال الكردستاني، وبالتالي استئناف واستمرار مشروعها في سوريا.
لذلك. ولذلك تحديداً، تدرك تركيا أن الشيطان يكمن في التفاصيل، وأن أهم هذه التفاصيل ليست الفنية المتعلقة بالمساحة والعمق والامتدادـ وإنما هوية الطرف الذي سيتواجد ويضمن الأمن في تلك المنطقة. فوجودها هناك سيضمن مصالحها ويحمي أمنها، ويؤكد أن الفكرة "منطقة آمنة" فعلاً، بينما غيابها/ تغييبها سيعني تحول الفكرة عملياً إلى منطقة عازلة تتجاهلها وتتجاهل مصالحها، وتصبح عائقاً لها عن مكافحة مشروع الاتحاد الديمقراطي، أولويتها في القضية السورية في السنوات القليلة الأخيرة.وفي ظل اضطراب التصريحات والتوجهات بين المؤسسات الأمريكية، تبدو أنقرة أقرب لرؤية ترامب ووعوده على تخوف منها مما تعتبرها "ضغوطاً" عليه، ولذلك فهي تكثف تواصلها معه بشكل غير مسبوق، على شكل اتصالات هاتفية متكررة من أردوغان وزيارات لوفود ومسؤولين، وربما يصل الأمر إلى فكرة لقاء مباشر مع ترامب. ذلك أن أنقرة لا تملك أبداً رفاهية المغامرة بهذا الأمر، بعد كل ما حصل في سوريا والعراق وفي الداخل التركي، وحين باتت قريبة جداً وفق تقييمها من كسر قوة العمال الكردستاني العسكرية ومشروعه الانفصالي.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس