د. علي الصلابي - خاص ترك برس

كان من آثار التَّهجير الجماعي للمسلمين من الأندلس، ونزوح أعدادٍ كبيرةٍ منهم إِلى الشَّمال الأفريقي حدوث العديد من المشكلات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة في ولايات الشَّمال الأفريقي، ولمَّا كان من بين المسلمين النَّازحين إِلى هذه المناطق أعدادٌ وفيرةٌ من البحَّارة، فكان من الضَّروري أن تبحث عن الوسائل الملائمة لاستقرارها، إِلا أنَّ بعض العوامل قد توافرت لتدفع بأعدادٍ من هؤلاء البحَّارة إِلى طريق الجهاد ضدَّ القوى المسيحيَّة في البحر المتوسِّط، ويأتي في مقدِّمة هذه الأسباب الدَّافع الدِّينيِّ بسبب الصِّراع بين الإِسلام والنَّصرانيَّة، وإخراج المسلمين من الأندلس، ومتابعة الإِسبان، والبرتغال للمسلمين في الشَّمال الأفريقي.

وقد ظلَّت حركات الجهاد الإِسلاميِّ ضدَّ الإسبان، والبرتغاليِّين غير منظمة حتَّى ظهور الأخَوان: خير الدِّين، وعروج بربروسا، واستطاعا تجميع القوَّات الإِسلاميَّة في الجزائر، وتوجُّهها نحو الهدف المشترك لصدِّ أعداء الإِسلام عن التوسُّع في موانئ ومدن الشَّمال الأفريقي.

وقد اعتمدت هذه القوَّة الإِسلاميَّة الجديدة في جهادها أسلوب الكرِّ، والفرِّ في البحر بسبب عدم قدرتها في الدُّخول في حرب نظاميَّة ضدَّ القوى المسيحيَّة من الأسبان، والبرتغاليِّين، وفرسان القدِّيس يوحنَّا، وقد حقَّق هؤلاء المجاهدون نجاحاً أثار قلق القوى المعادية، ثمَّ رأوا بنظرهم الثَّاقب أن يدخلوا تحت سيادة الدَّولة العثمانيَّة لتوحيد جهود المسلمين ضدَّ النصارى الحاقدين.

وقد حاول المؤرِّخون الأوربيُّون التَّشكيك في طبيعة الحركة الجهاديَّة في البحر المتوسط، ووصفوا دورها بالقرصنة، وكذلك شكَّكوا في أصل أهمِّ قادتها، وهما: خير الدِّين، وأخوه عُروج، الأمر الَّذي يفرض ضرورة إِلقاء الضَّوء على دور الأخوين، وأصلهما، وأثر هذه الحركة على الدَّور الصَّليبيِّ في البحر المتوسط في زمن السُّلطان سليم، والسُّلطان سليمان القانوني.

أصل الأخوين: عروج، وخير الدِّين

يرجع أصل الأخوين المجاهدين إِلى الأتراك المسلمين، وكان والدهما يعقوب بن يوسف من بقايا الفاتحين المسلمين الأتراك الَّذين استقرُّوا في جزيرة مدللي إِحدى جزر الأرخبيل، وأمُّهما سيِّدةٌ مسلمةٌ أندلسيَّةٌ، كان لها الأثر على أولادها في تحويل نشاطهما شطر بلاد الأندلس الَّتي كانت تئنُّ في ذلك الوقت من بطش الإسبان، والبرتغاليِّين. وكان لعروج، وخير الدِّين أخوان مجاهدان، هما: إِسحاق، ومحمد إِلياس، ولقد استند المؤرِّخون المسلمون إِلى أصلهم الإِسلاميِّ إِلى الحجج التَّالية:

ما ذكره المؤرِّخ الجزائري «أحمد توفيق مدني» مستنداً على أثرين ما زالا موجودين في الجزائر، أولُّهما: رخامةٌ منقوشةٌ كانت موضوعةً على باب حصن شرشال، وثانيهما رخامةٌ كانت على باب مسجد الشَّواس بالعاصمة الجزائريَّة، وقد نقش على الرُّخامة الأولى: (بسم الله الرَّحمن الرَّحيم وصلَّى الله على سيدنا محمِّد واله، هذا برج شرشال أنشأه المجاهد محمود بن فارس التُّركي في خلافة الأمير الحاكم بأمر الله المجاهد في سبيل الله: «أوروج بن يعقوب» بإِذنه بتاريخ أربعة وعشرين بعد تسعمئة (1518م). ونقش على الرُّخامة الثَّانية: (اسم «أوروج» ابن أبي يوسف يعقوب التُّركي)». وهناك ثالثةٌ مسجَّلٌ عليها بعض ما شيَّده خير الدِّين في الجزائر سنة 1520م.

إِنَّ اسم «عُرُوج» ـ «أوروج» مأخوذٌ من حادثة الإِسراء، والمعراج الَّتي يرجَّح: أنَّه ولد ليلتها، وأنَّ الترك ينطقونه «أوروج» ثُمَّ عُرب إِلى «عروج».

إِنَّ ما ذكر عن الدَّور الَّذي لعبه الأخوان يؤكِّد حرصهما على الجهاد في سبيل الله، ومقاومة أطماع إسبانيا، والبرتغال في الممالك الإِسلاميَّة في شمالي أفريقية. ولقد أبدع الأخوان في الجهاد البحري ضدَّ النَّصارى، وأصبحت لحركة الجهاد البحري في القرن السَّادس عشر مراكز مهمَّةٌ في شرشال، ووهران، والجزائر، ودلي، وبجاية، وغيرها في أعقاب طرد المسلمين من الأندلس، وقد قويت بفعل انضمام المسلمين الفارِّين من الأندلس، والعارفين بالملاحة، وفنونها والمدرَّبين على صناعة السُّفن.

دور الأخوين في الجهاد ضدَّ الغزو النَّصراني:

اتَّجه الأخوان عروج وخير الدِّين إِلى الجهاد البحريِّ منذ الصِّغر، ووجَّها نشاطهما في البداية إِلى بحر الأرخبيل المحيط بمسقط رأسهما حوالي سنة 1510م، لكنَّ ضراوة الصِّراع بين القوى المسيحيَّة في بلاد الأندلس، وفي شمالي أفريقية، وبين المسلمين هناك، والَّذي اشتدَّ ضراوةً في مطلع القرن السَّادس عشر، وقد استقطب الأخوين لينقلا نشاطهما إِلى هذه المناطق، وبخاصَّةٍ بعد أن تمكَّن الأسبان، والبرتغاليُّون من الاستيلاء على العديد من المراكز، والموانئ البحريَّة في شمالي أفريقية.

وقد حقَّق الأخوان العديد من الانتصارات على القراصنة المسيحيِّين، الأمر الَّذي أثار إِعجاب القوى الإِسلاميَّة الضَّعيفة في هذه المناطق، ويبدو ذلك من خلال منح السُّلطان «الحفصي» لهم حقَّ الاستقرار في جزيرة جربة التُّونسيَّة، وهو أمر عرَّضه لهجوم إسبانيٍّ متواصلٍ اضطره لقبول الحماية الإسبانيَّة بالضَّغط، والقوَّة، كما يبدو من خلال استنجاد أهالي هذه البلاد بهما، وتأثيرهما داخل بلادهم، ممَّا أسهم في وجود قاعدةٍ شعبيَّةٍ لهما تمكِّنهما من حكم الجزائر، وبعض المناطق المجاورة. ويرى بعض المؤرِّخين: أنَّ دخول «عروج» وأخيه الجزائر، وحكمهما لها لم يكن بناءً على رغبة السُّكان، ويستند هؤلاء إِلى وجود بعض القوى الَّتي ظلَّت تترقَّب الفرص لطرد الأخوين، والأتراك المؤيِّدين لهما، لكن البعض الآخر يرون: أنَّ وصول «عروج» وأخيه كان بناءً على استدعاءٍ من سكَّانها لنجدتهم من الهجوم الأسباني الشَّرس، وأنَّ القوى البسيطة الَّتي قاومت وجودهما كانت تتمثَّل في بعض الحكَّام الَّذين أبعدوا عن الحكم أمام محاولات الأخوين الجادَّة في توحيد البلاد؛ حيث كانت قبل وصولهما أشبه بدولة ملوك الطَّوائف في الأندلس.

وقد ساند أغلب أهل البلاد محاولات الأخوين، واشتركت أعدادٌ كبيرةٌ منهم في هذه الحملات، كما ساندهما العديد من الحكَّام المحلِّيين الَّذين شعروا بخطورة الغزو الصَّليبي الإسباني.

ويظهر دور الأخوين المجاهدين بمحاولة تحرير «بجاية» من الحكم الإسباني سنة 1512م، وقد نقلا ـ لهذا الغرض ـ قاعدة عمليَّاتهما ضدَّ القوات الإسبانيَّة في ميناء جيجل شرقي الجزائر بعد أن تمكَّنا من دخولها، وقتل حماتها الجنويِّين سنة 1514م لكي تكون محطَّة تقوية لتحرير بجاية من جهةٍ، ولمحاولة مساعدة مسلمي الأندلس من جهةٍ أخرى.

ويبدو أنَّ الأخوين قد واجها تحالفاً قويَّاً نتج عنه العديد من المعارك النِّظامية، وهو أمرٌ لم يتعوَّدوه، لكن أجبروا عليه بفعل الاستقرار في حكم الجزائر، وزاد من حرج الموقف قتل «عروج» في إِحدى المعارك سنة 1518م ممَّا اضطر خير الدِّين للبحث عن تحالف يعينه على الاستقرار، والمقاومة، ومواصلة الجهاد.

وكانت الدَّولة العثمانيَّة هي أقوى القوى المرشَّحة لهذا التَّحالف، سواءٌ لدورها البارز في ساحة البحر المتوسط، أم لأنَّ القوى المحلِّيَّة في الشمال الأفريقي كانت متعاطفةً معها، وتتابع انتصاراتها على السَّاحة الأوربيَّة منذ فتح القسطنطينيَّة، وأنَّ الاتِّجاه لمحالفتها سيكسب دور خير الدِّين مزيداً من التَّأييد من قبل هذه القوى، وإِلى جانب ذلك فإِنَّ الدَّولة العثمانيَّة قد أبدت استجابةً للمساعدة حين طلب منها الأخوان ذلك، كما أبدت رغبتها في مزيدٍ من المساعدة لدوره، وكذلك لبقايا المسلمين في الأندلس، ومن منظورٍ دينيٍّ أسهم في إِكساب دورها تأييداً جماهيريّاً وجعل محاولة التَّقرُّب منهما، أو التحالف معهما عملاً مرغوباً.

ومن جهةٍ أخرى كانت الظُّروف في الدَّولة العثمانيَّة على عهد السُّلطان سليم الأول مهيَّأةً لقبول هذا التَّحالف، وبخاصَّةٍ بعد أن اتَّجهت القوَّات العثمانيَّة إِلى الشَّرق العربيِّ، وكان من أبرز أهدافها في هذا الاتِّجاه هو التَّصدِّي لدور البرتغاليِّين، والإسبان، وفرسان القدِّيس يوحنَّا في المنطقة، وكان من المنطقيِّ التَّحالف مع أيٍّ من القوى المحلِّيَّة الَّتي تعينها على تحقيق هذه الأهداف.


مراجع البحث:

د. علي محمّد الصلابي. الدولة العثمانية، عوامل النهوض وأسباب السقوط، الطبعة الأولى 2003م، ص (169: 171).

أحمد توفيق مدني، حرب الثلاثمئة سنة بين الجزائر وإسبانيا 1492 – 1792 ، الشركة الوطنية للنشر، الجزائر، ط2، 1984م ، ص (160، 161).

د. زكريَّا سليمان بيُّومي، قراءة جديدة في تاريخ العثمانيِّين، عالم المعرفة، الطَّبعة الأولى 1411هـ/1991م ، ص (79، 80 ، 83).

د. صلاح العقاد، المغرب العربي في بداية العصور الحديثة، مكتبة الأنجلو المصريَّة، القاهرة، الطَّبعة الثَّالثة، 1969م. ص (37، 38).

د. عبد العزيز الشِّنَّاوي، الدَّولة العثمانيَّة، دولةٌ إِسلاميَّةٌ مفترى عليها، مكتبة الأنجلو المصريَّة، مطابع جامعة القاهرة، عام 1980م (2/902).

د. علي حسون، تاريخ الدَّولة العثمانيَّة، المكتب الإِسلامي، ط3، 1415هـ/1994م ص (53).

محمد فريد، تاريخ الدولة العلية العثمانية ، دار النفائس، ط10، 1427هـ - 1981م، ص (95).

عن الكاتب

د. علي محمد الصلّابي

الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس