ترك برس
على عكس ما هو متوقع من السمعة الغالبة على العلاقات الدولية والأوربية الآن فإنه طوال قرنين ونصف من عهد الملك فرانسوا الأول وحتى الثورة الفرنسية، كانت علاقة الدولة العثمانية بمثابة "الملاذ المفضّل" لفرنسا في علاقاتها الأوروبية.
ورد ذلك في تقرير للمستشار السياسي للائتلاف العالمي للمصريين في الخارج، الدكتور محمد الجوادي، نُشر في "مدونات الجزيرة" تحت عنوان "بدايات عصر النهضة الفرنسية جاءت من تحالفهم مع الدولة العثمانية".
ويرى الجوادي أن كل من زار باريس العظيمة ولو على الورق يُلاحظ اهتمامها الذي يصل حد التبجيل والتقديس بمبانيها ذات الطابع الباريسي التي يُسمٌيها الباريسيون بالعمارات العثمانية ونُسمٌيها نحن العرب بالباريسية لأننا نحقد على العثمانيين بسبب مُحاولتنا المريضة لنفي الأخ القريب..
أما الفرنسيون فإنهم حتى يومنا هذا لا يزالون يُسمٌون مبانيهم الجميلة بالعثمانية، وقد وصل أوجُ هذه المباني إلى القمة على يد المهندس المعماري العظيم الذي أسٌس باريس الجديدة مُستلهما هذا الطراز العثماني الذي يُحافظ عليه الفرنسيون بقدر ما يُحافظون على صحتهم ومواردهم وأموالهم.
ويقول الجوادي إن التعاون العثماني الفرنسي الذي وصل إلى حد التحالف بل سُمٌي بهذا الاسم في الأدبيات الفرنسية والأوربية على وجه العموم، فقد بدأ في عهد السلطان العثماني سليمان القانوني (1494 ـ 1566) والذي تولى الخلافة لأطول مدة قضاها خليفة عثماني (46عاما) ما بين (1520 ـ 1566) كان عمره فيها ما بين السادسة والعشرين من عمره ونهاية العمر في الثانية والسبعين.
أما ملك فرنسا فكان هو الملك فرنسوا الأول (1494 ـ 1547) الذي ولد في نفس العام الذي ولد فيه سليمان القانوني، وحكم فرنسا لأكثر من 32 عاما ما بين أول يناير 1515 وحتى وفاته في مارس 1547 أي أنه تعاصر هو وسليمان القانوني كحاكمين (27 عاما) ما بين 1520 وحتى 1547 وإن كان فرنسوا قد حكم 5 سنوات قبل حكم سليمان القانوني.
كما أن سليمان القانوني حكم 19 سنة بعد وفاة فرنسوا الأول، وقد حكم في هذه السنوات كل من هنري ابن فرنسوا الأول ثم أبناؤه فرنسوا وشارلز وهنري أي أن سليمان القانوني عاصر حكم فرنسوا الأول وابنه الوحيد وأحفاده الثلاثة، وفق ما ورد في تقرير الكاتب المصري.
وتابع الجوادي: تاريخ سليمان القانوني مُشرٌف ومعروف، وتاريخ فرنسوا الأول معروف ومُشرٌف كذلك، وقد شهد كثيرا من الانتصارات على السويسريين وعلى الإيطاليين، وصلت إلى حد استيلائه على ميلانو في خضم صراعه مع شارل الخامس (1500 ـ 1558) الذي كان ملكا لإسبانيا (1516) وأضاف إليها أرشيدوقية النمسا (منذ يناير 1519) وإمبراطورية ألمانيا وإيطاليا (منذ يونيو 1519) ليصبح بهذا مستحقا لقب الإمبراطور الروماني المقدس.
إلى هذا التحالف بين سليمان وفرنسوا يعود الفضل الذي لم يذكره ولم ينكره المؤرخون الأوربيون في بداية الخروج الحقيقي للعالم الكاثوليكي من أسر الكهنوت، ففي مواجهة مع شارل الخامس وإمبراطورته التي كانت أول إمبراطورية أوربية يُطلق عليها الوصف القائل بأن الشمس لا تغيب عنها، لأنها كانت تضم كل مستعمرات إسبانيا في الأمريكيتين لكن تحالف فرانسوا الأول مع سليمان القانوني جعله ندٌا قويا للإمبراطور الروماني المقدس..
ولولا هذا التحالف لسقطت فرنسا كلها في قبضة شارل الخامس إمبراطور أسبانيا وألمانيا وإيطاليا والنمسا والأمريكيتين، بل إن هذا التحالف مع العثمانيين هو الذي ساعد شمال ألمانيا على النجاة من المفاهيم السياسية البطريركية العتيقة لهذه الكاثوليكية الرومانية التي كان أصحابها لا يفتأون يلوذون بها باعتبارها مُقدٌسة، وباعتبارها أكبر سند للحكم الأوتوقراطي الذي قاومته عقليات أوربا كثيرا حتى استطاعت التخلص منه على عدة محاور متوالية كان منها الإصلاح اللوثري والثورة الفرنسية .
على أن الأهم من هذه المزايا والمكاسب الاستراتيجية كان ما حدث من ازدهار العلم حيث انتقلت ثمار الحضارة الإسلامية بفضل هذا التحالف القوي والمُتشعٌب في اتجاهاته وميادينه بين السلطان سليمان القانوني الذي هو في الأصل وقبل وصف القانوني: سليمان الأول، وبين فرانسوا الأول وهو أول إمبراطور أو ملك فرنسي يحمل الاسم الدال على الفرنسية نفسها.
بفضل هذا التحالف عرفت أوربا (من خلال فرنسا) نصر الدين الطوسي وإنجازاته في علم الفلك من خلال التبادل العلمي الذي أتاحته قنوات التحالف وبهذا انتهى الاعتقاد في مسئولية الشياطين عن الإظلام ... الخ بل عرفت أوربا من خلال هذا التبادل معنى المؤسسة العلمية التعليمية المرتبطة بالمكتبة فنشأت كلية القراء الملكية على غرار مكتبات المسلمين، وهي المكتبة/ الكلية التي تحولت مع الزمن إلى الكوليج دو فرانس وكان للغة العربية منهج ومُقرر دراسي في هذه المكتبة/ الكلية.
وفي عهد فرنسوا الأول توجهت العناية إلى اللغة الفرنسية على الرغم من بقاء اللاتينية وقد كان فرنسوا هو صاحب القرار باستخدام اللغة الفرنسية في دواوين الحكومة والمحاكم والسجلات على نحو ما كان العثمانيون يستخدمون التركية مع العربية لغة العبادة.
وكان الملك الفرنسي في كل هذه القرارات متأسيا بذلك النجاح الذي حقٌقته الدولة العثمانية في ذلك الوقت من ارتباطها باللغة العربية وتراثها الفكري الذي اجتمعت فيه ذخائر كل التراث السابق على تراث المسلمين من اللاتين والهنود والفرس والرومانيين... الخ.
وبفضل موجة التسامح الديني الذي كانت الدولة العثمانية مضرب المثل فيه حتى بعد فتوحها في شرق أوروبا على يد سليمان القانوني نفسه بدأ فرنسوا الأول سياسة متسامحة مع البروتستانت، كانت من أسباب ازدهار البروتستانتية في ذلك الوقت، لكن تفاعل الأحداث فيما بعد ذلك جعل التوجه الفرنسي نحو التسامح الديني يتدهور بسرعة وينتكس ويصل إلى حدود التعنت والتعسف ضد البروتستانتيين ذلك أن عقيدة التسامح الديني لم تكن وصلت على ما وصلت إليه من تغلغل عند العثمانيين بحكم إسلامهم القادر على التنوع.
وعلى عكس ما هو متوقع من السمعة الغالبة على العلاقات الدولية والأوربية الآن فإنه طوال قرنين ونصف من عهد فرنسوا الأول وحتى الثورة الفرنسية كانت علاقة الدولة العثمانية بمثابة الملاذ المفضل لفرنسا في علاقاتها الأوروبية.
وكان لهذا التفضيل ثلاثة أسباب (بلغة عصرنا الحالي)، أولها مواجهة اليمين المتطرف الذي يُمثله العرش الإسباني وامتداداته، وثانيها: التطلع إلى الإفادة من الأنماط العلمية والحضارية التي تفوٌق فيها العثمانيون والمسلمون على وجه العموم، وثالثها حماية الكيان الفرنسي ذي الموقع المتوسط من تحالفات البريطانيين في الشمال والألمان في الشرق والإسبان في الغرب والطليان وغيرهم في الجنوب وهي تحالفات كانت كفيلة باستقطاع مساحات كثيرة من فرنسا حتى لا تُبقي من فرنسا شيء إلا وقد توزٌع.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!