إبراهيم بوعزّي - نون بوست
لقد بدأت القصة في الأندلس ولم تنته في لوزان، بل هي متواصلة حتى إقامة دولة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات الذي ينبع من الأراضي التركية، أما الأندلس فقد كانت تزخر بمآثر يفخر بها كل مسلم وكانت في الآن نفسه مسرحًا لأحداث دامية يخجل منها كل عربي حيي، بل وكانت عبرة لحكامنا الذين لا يعتبرون من درس الأندلس وهو مسطور في كتب التاريخ التي تُحدِثنا عن التطرف الديني عند الإسبان إذ لم يطردوا المسلمين من العرب والبربر فقط بل الإسبان الذين كانوا قد اعتنقوا الإسلام لم يبق لهم الحق في العيش بأراضيهم، وكذلك اليهود فقد وقع طردهم من الجزيرة الأيبيرية إلى ساحل المتوسط الجنوبي ثم طاردوهم إلى هناك واحتلوا شمال أفريقيا.
لقد بدأت قصة سبطاي في تلك اللحظة عندما هرب المسلمون واليهود من محاكم التفتيش الكاثوليكية بعد سقوط غرناطة، فقد استقر هؤلاء المورسكيون وأغلبهم من المسلمين في المغرب والجزائر وتونس وأقاموا لهم هناك مدنًا وقرى على الطراز الأندلسي، أما اليهود فقد اتصلوا بالسلطان العثماني بايزيد الثاني فاستقبلهم وأحسن وفادتهم ثم أسكنهم بمدينة سالونيك الواقعة شمال شرقي اليونان بأمل أن تستفيد منهم الدولة لبراعتهم في التجارة والحرف اليدوية، ولكنه لم يكن يعلم أن الذي يربي جرو الذئب في حظيرته يأكل له خرافه لا محالة.
نشأت النواة الأولى لدولة إسرائيل هناك في سالونيك، وأصبح اليهود من أثرياء الدولة العثمانية التي ضمنت لهم حقوقًا لا يحلمون بها حتى استعملتهم في البلاط كتَّابًا ومترجمين ووزراء في الولايات والأقاليم، ثم انتشروا في الأراضي العثمانية يديرون التجارة ويقيمون شركات مع الجنويين والبنادقة وغيرهم من تجار أوروبا؛ وكان اهتمامهم موجهًا دائمًا إلى هيكل سليمان المزعوم هناك بفلسطين التي كانت متصرفية عثمانية مقدسة.
وفي يوم من الأيام تهامس اليهود في بلاد آل عثمان متناقلين خبر المسيح الذي ظهر في إزمير، أهو المسيح المنتظر أم هو "دجّال كسابقه الناصري"، ووصل الخبر إلى الطائفة الموسوية في أرجاء أوروبا فهزهم إلى مسيحهم شوق يخالطه خوف وقلق وريبة وبدأت التساؤلات والاستفهامات عن هذا المسيح من هو؟ كيف ظهر؟ ما دعوته…؟
إنه سبطاي سوي Sabatay Sevi أو sabbatai Zewi أو Sabatha Sebi ولد في إزمير غرب الأناضول سنة 1626 ومات بمدينة اولگون بألبانيا سنة 1675، وهو ابن السمسار اليهودي موردخاي سوي المعروف بين الأتراك باسم "قره منتشه". أصبح سبطاي حاخامًا حسب رغبة أمه ذات الميول الدينية، درس التوراة والتلمود والمعارف الباطنية على يد حاخام إزمير "إسحاق دلبع"، وقد استنبط الحاخام الشاب سبطاي سوي من النصوص الدنية العبرانية حسب منهج القبالا أن ظهور المسيح المخلّص سيكون سنة 1648 فأعلن نفسه مسيحًا في ذلك التاريخ، فآمن به كثير من يهود إزمير رغم رفض الحاخام جوزيف اسكوبا دعواه وتكذيبه له، ثم بدأ المسيح الجديد سبطاي سوي رحلة المغامرات الشاقة، فقد وفد إلى إسطنبول سنة 1650 فنصحه حاخامها أبراهام وجيني بالرحيل إلى سالونيك حيث عدد أتباعه والمؤمنين به في تزايد، ثم عاد إلى إزمير سنة 1659 وبعد ثلاث سنين ذهب في زيارة دعوية إلى مصر وفلسطين وعند عودته إلى إزمير وقع تتويجه من طرف اليهود المؤمنين به، ثم نشر بيانًا قسَّم فيه العالم من بعده على مريديه الثمانية والثلاثين، ووفد لزيارته يهود من ألمانيا وبولونيا وبقية أنحاء العالم.
وعندما لاحظت صدارة الدولة العثمانية هذا الوضع بدأت تتخذ سلسلة من التدابير الزجرية لمقاومة هذا التكتل اليهودي، ووجدت الدولة دعمًا لها من طرف اليهود المحافظين والحاخامات الرسميين فسجنت سبطاي سوي سنة 1666 بتهمة بث الفتنة وإفساد الديانة اليهودية وادّعاء النبوة، ثم نقلته من سجن "زندان قابو" بإسطنبول إلى جزيرة آيدوس لعرقلة الزوار اليهود المتوافدين عليه هناك، فتحولت قبلة زائريه من إسطنبول إلى آيدوس ببحر إيجه، وفي زمن السطان محمد الرابع سيق هذا المتنبي اليهودي إلى قصر السلطنة القديم بمدينة أدرنة غربي إسطنبول لمحاكمته، ولم يكن يتقن اللغة التركية فكان يترجم له من الإسبانية رئيس الأطباء حياتي زاده مصطفى فوزي أفندي وهو يهودي الأصل كان قد أعلن إسلامه من قبل، وحضر المحاكمة مصطفى باشا وكيل الصدر الأعظم وشيخ الإسلام منقاري زاده يحيى أفندي وإمام السلطان الواعظ محمد أفندي الواني، وكان السلطان محمد الرابع يراقب المحاكمة بنفسه من وراء حجاب، وبدأت المداولات ووجهت التهم إلى المدَّعى عليه فلم يستطع لها ردًّا، ولكن في آخر لحظة بادَرَه مترجمه اليهودي الأصل بفكرة تنقذه من الإعدام وتكسبه عند السلطان حظوة وهيبة ومقامًا، اقترح المترجم على سبطاي أن يعلن إسلامه كي ينجو بنفسه من الإعدام، وحاول إقناعه باللغة الإسبانية أنه إن أعلن تراجعه عن دعوته فإنه يمكن أن يواصلها سرًا لأن أتباعه يؤمنون به إيمانًا أعمى، فقبل سبطاي الاقتراح وأعلن إسلامه فعفى عنه السلطان وأطلق سراحه وخصص له مائة وخمسين آقجة فضية راتبًا شهريًا، ثم بدل الحاخام القديم سبطاي اسمه فصار يدعى محمد عزيز أفندي واغتسل ونطق بالشهادتين ولبس الجبة والعمامة ثم استطاع بأسلوبه الخاص أن يقنع الكثير من أتباعه بإعلان إسلامهم، ولكنه لم ينس أنه المسيح المنتظر الذي سيخلص بني إسرائيل من الذل والعبودية.
أطلق الأتراك على هذه الفئة الجديدة من المسلمين عبارة "دونمه" وهو مصدر مشتق من فعل "دونمك" باللغة التركية ويعني العودة والرجوع، إذ إنهم عائدون إلى دين الحق أو بمعنى آخر المرتدون عن دينهم، وكانت لهذه الطائفة طقوس وأعياد خاصة وعبادات غريبة ليس هذا مجال تفصيلها، ولكن المؤرخين والباحثين يجمعون على أنهم يظهرون الإسلام ويحافظون على يهوديتهم في بيوتهم ومجالسهم الخاص سرًا، إلا أن قليلاً منهم حسُن إسلامه.
مات سبطاي سوي بمدينة اولگون بولاية ألبانيا في الـ 30 من سبتمبر من عام 1675 بعد أن جمع حوله هناك آلاف الأتباع والمريدين من الطائفة اليهودية ليؤسس مذهبًا أو جماعة جديدة تتداخل فيها اليهودية بالإسلام، ولم تنته القصة بموت "الحاخام المسلم" محمد عزيز سبطاي سوي، ولكنها تواصلت مع أتباعه الذين لعبوا دورًا كبيرًا في إسقاط الدولة العثمانية وقيام الجمهورية التركية الحديثة على يد باشوات جمعية الاتحاد والترقي.
تأسست جمعية الاتحاد والترقي في مدينة سالونيك على يد أحد اليهود السبطائيين ويدعى باروخ لوي، وانعقد أول اجتماع لها بالمحفل الماسوني بسالونيك، وقامت هذه الجمعية بعزل السلطان عبد الحميد الثاني لرفضه بيع فلسطين لليهود، ثم سجن السلطان المخلوع في بيت أحد اليهود بسالونيك، ثم كان لليهود دور كبير في المذابح الأرمنية بشرق الأناضول، والأخطر من ذلك أن هؤلاء السبطائيين الذين تولوا مناصب عالية في المؤسسة العسكرية العثمانية كانوا قد أقنعوا السلطان محمد رشاد بالدخول في حرب خاسرة إلى صف ألمانيا وإيطاليا، رغم أن روما كانت تحتل ولايتي طرابلس وبرقة العثمانيتين، وقد خسرت قوات المحور الحرب واحتل الحلفاء كامل الأناضول وحاصروا العاصمة إسطنبول، وقبل ذلك بسنوات لاحظ العرب فساد البلاط العثماني وهيمنة اليهود عليه فاختاروا الانفصال عن دولة الخلافة مرتع اليهود التي تحول فيها الخليفة إلى لعبة بين يدي السبطائيين لا يعلم ما يجري خارج قصره، لأن منصبه أصبح شرفيًا استخدمته جماعة الدونمه لكسب ولاء الشعب التركي المسلم كي لا يثور عليهم كما ثار من قبلهم الألبان والعرب.
وفي سنة 1923 أعلن نواب مجلس الشعب، وأغلبهم من السبطائيين أو أبناء المسلمين الذين باعوا ضمائرهم لليهود والنصارى، عن سقوط السلطنة العثمانية وإنشاء جمهورية علمانية تحِلّ فيها روح الخلافة في مجلس الشعب، في محاولة منهم لإيهام الشعب بأن الخلافة لم تسقط ولكنها متواصلة في مؤسسة البرلمان، وحتى يُكسِبوا النظام الجمهوري شرعية وقدسية.
كان أول رئيس للجمهورية التركية مصطفى كمال باشا قد ولد في سالونيك في قصر أحد الأغنياء اليهود السبطائيين، وقد شكك البعض في صحة نسبه، وكان خليفته من بعده عصمت إينونو سليل عائلة سبطائية معروفة، وقد فعل هذان الرئيسان وأعوانهما في الشعب التركي المسلم الأفاعيل ليبعدوه عن دينه، إذ إنهم أغلقوا أغلب الجوامع وهدموا منها الكثير، ومنعوا الناس من الصلاة ولم يسمحوا بالعبادة إلا باللغة التركية، فكانت الصلاة والخطبة والأذان تقام بالتركية التي غيروا كتابتها من الحرف العربي إلى اللاتيني بدعوى التمدن والتحضر، ولكن هدفهم الرئيسي كان قطع الشعب عن أصوله الشرقية الإسلامية وإنشاء جيل يعجز عن قراءة القرآن الكريم وفهم معانيه، ولم يكيف ذلك فأغلقوا كافة المدارس الدينية ومنعوا الأزياء الإسلامية وكل ما له علاقة بالهوية الدينية اللشعب، وبهذه الدعوى شنق مئات المسلمين في الساحات العامة بأنقرة لرفضهم نزع العمامة أو حلق اللحية.
قاوم الشعب التركي المسلم تلك الهجمة الصهيونية على آخر معقل للإسلام في الأناضول، وقدم آلاف الشهداء مثل الشيخ سعيد پيران وغيره، وفي الستينات من القرن الماضي خفّت الهجمة على الإسلام والمسلمين لمواجهة المد الشيوعي الذي بات يتهدد البلد من الشمال والشرق والغرب، فوقع تعيين رئيس حكومة معتدل يدعى عدنان مندريس ففتح الجوامع المغلقة وسمح بالأذان والعبادات بالعربية وأسس مدارس للأئمة والخطباء وسمح بتدريس التربية الإسلامية بالمدارس الحكومية، فما كان من القوى الظلامية للطائفة السبطائية إلا أن حاكموه بتهمة تحويل الجمهورية العلمانية إلى دولة دينية، ثم أعدموه شنقًا ليكون عبرة لمن يحنّ إلى ماضيه وأصله المسلم من حكام البلد.
كان بعض أتباع سبطاي سوي قد تحولوا في تلك الفترة إلى رجال أعمال كبار بما جمعوه من ثروات طائلة فسيطروا على الجانب الاقتصادي للبلد بعد الجانب السياسي والعسكري؛ ومن أهم رجال الأعمال السبطائين في وقتنا هذا رحمي قوچ صاحب شركات قوچ المعروفة ومنتج آلات آرتشليك المنزلية بالإضافة، إلى جم أوزان رجل الأعمال ذي الفضائح السياسية والمالية الكثيرة.
عندما تحولت في التسعينات المعركة بين المسلمين واليهود في تركيا إلى منافسة سياسية ديمقراطية، أثبت الشعبُ المسلم جدارته بإدارة بلده فاختار حكومة وطنية بقيادة حزب الرفاه الإسلامي الذي قام بإصلاحات اقتصادية ، ولكن الدولة العميقة التي تديرها القوى السبطائية التي تسيطر على مقاليد الحكم الحقيقي في البلد، قد أجبروا حكومة الرفاه على إمضاء اتفاقية عسكرية مع حكومة الاحتلال الصهيوني بفلسطين المحتلة، وكأنهم بذلك يضفون شرعية على هذه الاتفاقية لأنه تم توقيعها في عهد رئيس حكومة إسلامي. وبعد هذه الاتفاقية بقليل وفي الـ28 من فبراير عام 1997 تمت إقالة حكومة حزب الرفاه ومُنع إثر ذلك الحجاب الإسلامي في المدارس والدوائر الحكومية، وبقي هذا المنع ساري المفعول إلى أن ألغته حكومة حزب العدالة والتنمية بعد نحو عِقدين، ولم يكن النجاح الذي حققه حزب الرفاه إلا مرحلة من مراحل المخطط اليهودي في تركيا لإقامة حلف مع الكيان الصهيوني ومنع ما تبقى من مظاهر الإسلام في هذا البلد المسلم.
أما اليوم فالحكومة الظاهرة للبلد في يد حزب العدالة والتنمية المنشق عن حزب الرفاه الإسلامي، ونجح حزب العدالة والتنمية في الحد من سلطات المؤسسة العسكرية التي يسيطر عليها السبطائيون ونجح أيضًا في كشف فضائح رجل الأعمال السبطائي جم أوزان ومصادرة أملاكه، وتمكّن الحزب من تقليص سلطات رئيس الجمهورية لحساب مجلس الشعب، وقام بإصلاحات مهمة في الجانب الحقوقي والقانوني والاقتصادي بذريعة الإصلاحات المطلوبة من طرف الأوروبيين للانضمام إلى اتحادهم، ولكن ما تهمله هذه الحكومة هو أن هذه الإصلاحات ودخول الاتحاد الأوروبي في حد ذاته ليس في صالح البلد ولا الشعب المسلم، فمن هذه الإصلاحات مثلاً السماح للأجانب بشراء العقارات داخل التراب التركي، وعلى أساسه بدأ اليهود يفدون من أوروبا وأمريكا والكيان الصهيوني لشراء الأراضي في جنوب شرق الأناضول على ضفاف نهر الفرات؛ ليتم بذلك تهيئة الأرضية للمشروع الصهيوني من النيل إلى الفرات.
ولن تنتهِيَ القصة هنا! فالسبطائيون مازالوا يملكون القوة المالية والعسكرية لتوجيه سياسة تركيا بشكل ديمقراطي في ظاهره، ولكنه يستخدم آلات غير ديمقراطية كالضغط المالي والإعلامي والسياسي والاغتيالات والانقلابات لأجل السيطرة على تركيا لما لها من وزن إستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط في سبيل تحقيق الهدف الصهيوني الكبير والرهيب وهو دولة تمتد حدودها من النيل إلى الفرات.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس