فؤاد العايب - خاص ترك برس
تمهيد:
لم تتمكن امبراطورية من الامبراطوريات القديمة من تأمين نفوذها قبل أن تتمكن من التحكم في منطقة أوراسيا، فذلك يجعل أي مواجهة قد تنطلق مع قوة منافسة تقع خارج المركز، وهو ما يعطي فرصةً ثانيةً لانتصار إذا ما فشلت في الأولى كما يحصن من الانهيار المفاجئ.
من جهة أخرى تفتح السيطرة على هذه المنطقة الباب أمام طريق الحرير، وهو ما يؤمن خطوط التجارة الدولية ويؤمن إمدادات السوق بحاجاته.
وبعد مؤتمر نيقية وتبني الإمبراطور قسطنطين للمسيحية أضافت الإمبراطورية الرومانية إلى البعد الأمني والبعد الاقتصادي بعدا ثقافيا دينيّا يربطها بهذه المنطقة قبل أن يأتي الإسلام ويحدث تغييره الجوهري.
لقد عرف العالم عبر تاريخه تعدّدًا في القوى الإمبراطورية العظمى التي تسيطر عليه، وكانت أعرق تلك الإمبراطوريات, الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية الرومانية وكانت فترة قوة كل واحدة منهما حين تسيطر على أوراسيا.
لم يعرف العالم أحادية قطبية في تاريخه، ولم يكن من استثناء غير التّجربة الإسلامية، فقد تمكن العرب عبر فتوحاتهم من القضاء على الإمبراطورية الفارسية وتمكن الترك من بعدهم من القضاء على الإمبراطورية الرومانية، ولعل السر في تلك الأحادية يكمن في أن الإمبراطوريات الإسلامية في عنصرها العربي والمملوكي والسلجوقي والعثماني كانت أوراسيا فيها المركز مما أعطاها الفرصة للتأثير في كل المساحات القارية المحيطة.
لم يكن من الممكن إعلان سيطرة العرق الأبيض على العالم قبل التمكن من السيطرة على أوراسيا - التي سميت من بعد بالهلال الخصيب وبالشرق الأوسط لاحقًا - عبر اتفاقية سايكس وزير خارجية بريطانيا وبيكو وزير خارجية فرنسا سنة 1916م، ففي ذلك استعادة للسيطرة على هذه المنطقة الاستراتيجية وإعلان إنهاء الإمبراطورية العثمانية وإلغاء التنوع العرقي والثقافي للقوى الدوليّة والعظمى.
لم تكن اتفاقية سايكس بيكو انطلاقا لمسعى القضاء على الامبراطورية العثمانية، ولكن تتويجا له حيث التفت القوة البحرية على تحكم العثمانيين في طريق الحرير والتوابل عبر احتلال الهند وتفكيك منظومتها السياسية والاجتماعية ثم السيطرة على الصين.
اتفاقية سايكس بيكو كانت بدأ بتقطيع أوصال الدولة العثمانية في العمق بعد السيطرة على الأطراف للإجهاز على تجربة حضارية انفردت بالسّيطرة على مساحة شاسعة من العالم تتوسط الأمم والقارات والحضارات، لكن الآليات التي استعملت خلال مسيرة إنهاء هذا النموذج الحضاري بدأت اقتصاديّا، وعندما وصلت إلى مرحلة الجراحة استعملت أدوات ذاتيّة اعتمدت على عنصر الانتماء الاجتماعي العرقي الدّاخلي، وعوقب من لم ينخرط في ذلك عبر حرمانه من دولته الوطنية عقابًا على تقديمه للولاء للدّين على الولاء العرقي، ولعلّها عقد التّاريخ تتراكم ثأرًا لهزيمة حروب الفرنجة على يد صلاح الدين الأيوبي التي أسمتها الكنيسة بالصليبيّة.
ملامح عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى:
لقد كانت الحرب العالمية الأولى إعادة هيكلة عالميّة بما يعنيه من إسقاط نظام عالمي متهالك سمته التّنوع الثقافي والعرقي وبني على أنقاضه نظام عالمي متعدد الأقطاب أحاديّ العرق والثقافة، ولأول مرة في تاريخ الإنسانية توظف المكاسب التي حققها المنتصرون في الحرب العالمية الأولى للدعاية لتفوق العنصر الأبيض حيث أخضعت العلوم لخدمة هذا الادّعاء عبر الربط بين الفكر الجدلي الهيغلي والعلوم والطبيعة. ولم ينتبه هؤلاء إلى أن العائق بين ألمانيا وبين انتصارها إنما كان ذلك العقل الجدلي الذي لم يراع معطيات الواقع وتوازناته فانخرط في مواجهة الجميع حتى سيطر الجنود السوفيات على حصون عاصمتهم برلين.
لعب الرّوس دورًا مهمّا في الانتقال من نظام عالميّ متهالك إلى آخر جديد، وذلك عبر تدخلهم ضد القوى التي انهزمت في الحرب خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية دون أن تستفيد من ذلك الإنجاز بحجم مساهمتها، فتركيا سقطت تحت نفوذ الحلف وبذلك بقيت روسيا معزولة عن المياه الدافئة وحوض المتوسط، ولم تغنم من ألمانيا إلا جزء منها رغم إسقاطها عمليا للنازية فكانت بذلك ككاسحة ألغام تقدم التّضحيات لتفتح الطريق أمام غيرها.
وقع توظيف البنية الاجتماعية التقليدية القبلية العربية بشكل استدرجت زعامات قبلية للانخراط في محاربة العثمانيّين، كما لعبت الإيديولوجيا الوهابيّة دور رفع الشرعية الدينية عن العثمانيين، وبذلك وقع خلق حالة من عدم الثّقة بين العرب والأتراك غذّاها القوميّون الأتراك المنبهرين بأروبّا عندما سعوا إلى استعمال الدولة للقيام بسياسات التتريك مما ساعد على حصر التركمان في الأناضول وخلق بيئة معادية لها تعزلها عن أهم مناطق أوراسيا من جهة الشرق والجنوب، وأحاطتها باليونانيين من الغرب حيث خلق التّحالف اليوناني البريطاني حالة من المواجهة وعدم الثقة بين الأتراك واليونانيين وصلت حد احتلال اليونانيين لأجزاء واسعة من غرب تركيا. كذلك ساهمت حروب الشمال الشرقي أي جهة القوقاز في إضعاف تركيا وريثة الدولة العثمانية.
أسقطت الدّولة العثمانية وبُنيت على أنقاضها الجمهورية التركية، فولدت الدولة محاصرة ومعزولة عن محيط تعاديه ويعاديها في انتظار تفتيتها لاحقا وإزالتها من الخريطة، ولولا ظهور الخطر السوفياتي لتم ذلك منذ زمن بعيد، فوجود القوة الروسية ساهم في إسقاط الدولة العثمانية ولكنه ساهم في الحفاظ على وجود تركيا لحاجة دول الحلف إلى قوة تمثل جبهة متقدمة للدّفاع عن أروبا في عودة إلى استغلال أوراسيا كمنطقة عازلة تمنع بدأ الحرب مع السوفيات داخل الفضاء الأوروبي ذاته. أوروبا من خلال دولها القارية لا تقبل تركيا (فرنسا وألمانيا ) ولا مبرر لذلك، وقد انخرطت تركيا في النموذج المجتمعي والاقتصادي والعسكري الأوروبي غير عقد التّاريخ التي لا توجد في العلاقة التركية الروسية مثلا.
أوروبا منقسمة عرقيا ودينيا، فالعنصر الأبيض فيها له خلفيتان عرقيّتان شرقها سلافي وغربها آري، كما أن شرقها أرثوذكسي وغربها كاثوليكي وأكبر جزرها بروتستانتية، والفكر الأوروبي الحديث أراد أن يبني حداثته بعيدًا عن الدين بعد أن تخلصت أوروبا من هيمنة الكنيسة عبر حروب أهلية حدثت في أغلب بلدانها عمرت لعقود وحصدت الأخضر واليابس. لقد لعبت الكنيسة دورًا معطّلا لنهضة أوروبا ولكن المسيحية رغم ذلك لعبت دور المكون للهويّة الجامعة. ومع صدام الدولة مع الكنيسة وتوظيف الكنسية للمسيحية لخدمة الدولة أصبح من الضروري تكوين أساس جديد يمثل مكوّنا جامعا للهوية، فكانت فكرة الدولة الوطنية الحديثة التي تقوم على أساس الانتماء العرقي. كان ذلك الانتقال من الهوية الدينية إلى الهوية الاجتماعية حاجة إجرائية لأن الاستمرار في اعتماد المكون الديني سوف يجعل المعركة الأيديولوجية تميل لصالح الكنيسة وهو ما يهدد المعركة السياسة في انتزاع السلطة من الخاصة وتقاسمها مع مختلف مكونات المجتمع مما حول الإجرائي إلى ايديولوجي تدفعه عقد الإحساس بالتفوق في صيغها المتطرفة كالنازية والفاشية.
لقد تمكنت الدّولة والقوى التحديثية من حسم المعركة مع الكنيسة على كل المستويات لصالحها ولم تخفق إلا في إسقاط وظائف الكنيسة حيث أضيفت إلى دولة الحداثة مقومات الكنيسة المتمثلة في الوصاية على إنتاج منظومة القيم واحتكار المعلومة والنّظرة إلى العامة بازدراء لما يعتقدون من تأصل الخطيئة فيهم، ثم توظيف كل الوسائل لإظهار رموز الكنيسة ثم الدولة من بعدها في صورة طهوريّة وخارقة للعادة، ونتيجة لذلك إذن سرقة السياسي يكفي معها الاعتذار وإعادة المال في بعض الحالات، أما سرقة جائع أو مشرد لما يسد رمقه فلا فكاك من السجن معها.
المشكل أن مكون الانتماء الاجتماعي العرقي كأساس للهوية أدّى إلى الحرب العالمية الثانية التي لم تشكل تهديدًا للشعوب الأخرى فقط وإنما تهديدًا وجوديا داخل أوروبا في حد ذاتها ممّا أجبر مراكز النفوذ الأوروبية والأمريكية بعد زلزال الحرب العالمية الثانية على البحث عن صيغة جديدة للهوية تشبع الحاجة للانتماء الجمعي، وقد تركزت في ثلاث نقاط أساسية:
الدين: دفع الصراع مع السوفيات أوروبا إلى المصالحة مع الدين وتوظيفه ضد الشيوعية دون السماح للكنيسة بالتضخّم من جديد.
الجغرافيا: اعتماد مقياس الجغرافيا كعنصر هوية مثل الانتماء القاري، أي الهوية الأوروبية أو مصطلح جغرافي ثان أي الغرب للجمع بين غرب أروبا وشمال القارة الأمريكية ليكون بذلك اصطلاحا جغرافيا خال من الجغرافيا لأن واقع الجغرافيا يمثل فيه شمال إفريقيا وغربها مثلا غربا جغرافيا لكنه يستثنيهم بدافع من التمييز العرقي والثقافي.
حقوق الإنسان: أما النقطة الثالثة فتمثلت في أساس معياري حقوقي سعى إلى تكوين منظومة قانونية محلية ودولية لحقوق الإنسان تكون مرجعًا لإدارة الأزمات الداخلية أو الدولية.
لم تغير الهيمنة السوفياتية والأمريكية على العالم من بنية الجغرافيا بشكل جذري في تحديد الحدود السياسية للدول ولا حتى التوازنات الثقافية بالمعنى السوسيولوجي وليس الإيديولوجي كما حافظت على التركيبة العرقية للقوى العظمى المهيمنة باستثناء الصين.
ملامح التحول واتجاهاته في المنظومة العالمية:
لقد عمرت البنية العالمية القائمة حاليا حوالي القرن من الزمن ولم يمكن الانتقال من موقع القوة العظمى من بريطانيا وفرنسا إلى الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة من تغييرها جوهريا رغم حجم القوة التي امتلكتها كل من أمريكا وروسيا، حيث تجمع من الأسلحة ما منع الحرب التي إن وقعت فلن يكون فيها رابح. كذلك لم يهدد بنيتها التقليدية إلا صعود اليابان خلال الحرب العالمية الثانية, وقد أوقف ذلك الصعود باستعمال الأسلحة النووية رغم غياب الحاجة العسكرية لذلك، وقد كانت اليابان في طريقها للاستسلام.
لولا الإيديولوجيا الشيوعية ولولا روسيا لما كان من الممكن فتح طريق لمشاركة العرق الأصفر في عالم عنصري قام على ايديولوجيا التفوق العرقي حيث أتيحت للصين فرصة أحسنت استغلالها لتفتح الطريق أمام عالم متعدد الأعراق في إدارته.
سقوط الاتحاد السوفياتي أحدث خللا في موازين القوى الدولية وفتح الباب أمام إعادة رسم خريطة الدول بشكل منفرد لأول مرة بعد حوالي القرن، لذلك انطلقت الولايات المتحدة في مشروعها للحفاظ على استمرار انفرادها في قيادة العالم.
أظهرت عديد الأبحاث المنشورة في الصحافة الأمريكية نفسها أن المشروع الأمريكي للشرق الأوسط قائم أساسا على مزيد من التقسيم تتوزع فيه الخريطة الجديدة على أساس عرقي وطائفي بصيغة تجعل التوتر بين المكونات المحلية عاليًا على الدوام وقابل للاشتعال في أي وقت لإجهاض أي مشروع محلي للنهوض مهما كانت طائفته أو عرقه، ولإدامة السيطرة على المنطقة وإكمال مشروع الهدم الذاتي الذي انطلق قبل أكثر من قرن. لقد بدأت أمريكا بتأمين حملتها على الشرق الأوسط قبل الانطلاق فيها بإقامة مراكز نفوذ متقدمة لإعاقة المارد الصيني عن التدخل إن فكر في ذلك عبر السيطرة على أفغانستان القريبة من مناطق إنتاج النفط في شمال غرب الصين، وللتحكم في إنتاج المخدرات وعائداته الخيالية ودور تلك العائدات في تمويل ما لا تسمح القوانين الداخلية بتمويله، وكذلك للتأثير في الدول عبر ضرب نسيجها الاجتماعي والثقافي عبر نشر المخدرات وكذلك لإلهاء المجتمعات المحلية عن التفكير في أوضاعها في وقت قررت سياسة العولمة أن رشوة دولة الرفاه الاجتماعي لإيقاف المد الشيوعي لم يعد لها من مبرر الآن والمضي إلى أقصى حد من التفكيك وصناعة الإنسان الفرد الذي يرى الآخر خطرا على وجوده مما يسهل التحكم فيه واستبعاد إمكانية تخلق كتلة مجتمعية تحد من جشع لوبيات السلطة والمال عالميا.
مباشرة بعد ذلك وقع غزو العراق وإشعال الصراعات فيه وأقيمت بنية عسكرية أمريكية في البلد تمكنه من التدخل في الإقليم كيف شاءت ومتى شاءت. لقد وقع الترويج للعراق على أنه سيكون نموذجًا للتقدم والحرية ليقولوا لشعوب المنطقة عبر ذلك إنكم إذا أردتم أحلام الحرية أن تصبح واقعا فالطريق إلى ذلك هو الاعتماد والثقة في التدخل الخارجي. وفي حقيقة الأمر فالعين الأمريكية على مصادر الطاقة في الخليج والمنطقة عموما وعلى هذه المنطقة الجيواستراتيجية لمنع تشكل أية قوة محلية قد تتحول إلى قوة دولية، وكذلك تعطيل النمو الصيني عبر التحكم في تكلفة الطاقة من خلال التحكم في منابعها في البداية، ثم التهيئة للتحكم في سوق الطاقة الدولية عند دخول استغلال النفط والغاز الصخري حيز الإنتاج لتمديد الرّيادة والهيمنة الاقتصادية على العالم ومنع أو تعطيل الصين للحيلولة دون تحولها إلى القوة الاقتصادية الأولى عالميا. كما لا يخفى ثابت السياسة الخارجية في حماية دولة الكيان بما هي نقطة متقدمة لما يسمى بالغرب في الشرق.
تخبط المشروع الأمريكي:
لقد أدى التّحكم الأمريكي المباشر في مصادر الطاقة عبر إثارة الحروب والعقوبات الاقتصادية والإشراف المباشر على النفط العراقي والسوري إلى ارتفاع أسعار الطاقة، وبالتالي ارتفاع تكلفة الإنتاج في الصين مما عطل نسب النمو الاقتصادي الصيني، لكن تلك السياسات زادت مخاوف أوروبا لوعيها بتعارض تحويل الاتحاد الأوروبي إلى قوة اقتصادية عظمى مع سعي الولايات المتحدة للحفاظ على تفردها في قيادة العالم بنفس إمبراطوري غير مسبوق، لذلك وإن كان الأثر الاقتصادي واضحًا لهذه السياسات إلا أنها عمقت التوجه للاستقلال عن القوة الأمريكية من قبل الأوروبيين، أما الصين فواصلت اقتحامها للأسواق عبر العالم دون أن تتورط في نزاعات تكلفها اقتصاديا، وقد تشكل حاجزًا سياسيّا يضع العوائق أمام دخولها أسواقا حديدة.
المسعى الأمريكي لتأبيد نفوذها هو الذي دفع في اتجاه خلق عالم متعدد الأقطاب، كما أن توسع الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي ليصل حدود روسيا أعاد روسيا إلى موقع المواجهة مع أوروبا وأمريكا بعد أن أوشك سقوط الاتحاد السوفياتي أن يجعل روسيا خارج السباق. لقد استفادت روسيا من الأزمات التي أحدثتها أمريكا في الشرق الأوسط، فارتفاع أسعار النفط مكن روسيا من إعادة هيكلة اقتصادها ومؤسساتها وأعادها إلى الساحة الدولية اقتصاديا وسياسيا وعسكريّا.
مشروع بوش للشرق الأوسط كان قائما على إلحاقه بأمريكا ونموذجها في التبعية عبر التدخل المباشر واستغلال التناقضات بين دول المنطقة طائفيا وعرقيا وقبليا واستنزاف موارده كمقدمة لتفتيت جميع تلك الدول.
لكن المفاجأة التي حدثت تمثلت في تخلق واقع جديد لم تعد فيه السّيطرة على مؤسسة الدولة المحلّية أو توظيفها حتى وإن كانت معادية (إيران مثالاً على دورها في غزو كل من العراق وأفغانستان ودورها اللاحق المدمر في سوريا) يكفي للتحكم في وجهة الأحداث فانطلاق ثورات المقاومة السلمية المدنية للاستبداد وعملاء الخارج - التي اصطلح على تسميتها بالربيع العربي - شكلت ظاهرة قد تشكل ملامح تتجاوز في تأثيرها حدود الشرق الأوسط لتطبع القرن الواحد والعشرين بخصوصية الحاجة إلى بناء قدر من التوازن بين المجتمع والدولة بما يمنع تغولها كسمة طبعت الدّولة الحديثة التي لم تكن دمقرطتها كافية لمنع انقلاب الأدوار بين الدولة والمجتمع، عبر الحفاظ على وظيفة الدولة كخادم للمجتمع وليست سيدًا عليه.
وقع جر ثورات الربيع العربي إلى العنف لتنفير الداخل والخارج منها، كما وقع جرها للطائفية حتى تكون التصويبة الخاطئة في خدمة مشاريع الهيمنة والتفتيت فتعطل نسقها وحدثت ارتدادات بدرجات متفاوتة، لكن ثورة السّودان والجزائر تمكنتا من الحفاظ على السلمية وساعد عدم رفع رايات حزبية أو ايديولوجية في سحب أيّ مبرر لاستعمال الدولة للعنف خاصة وأن الأنظمة في كل من البلدين لا تمثل تسلط أقلية دينية أو عرقية على أغلبية مختلفة مما جنبها مصير سوريا.
لم تهدأ ثورة الجزائر والسّودان بعد لكن بريقها اخترق الاستثناء الطائفي فاندلعت ثورة اللبنانيين والعراقيين عابرة للطوائف تجمع كل شرائح المجتمع المتضررة من الفساد والاستبداد لتعيد قدرًا من التوازن بين الدّولة والمجتمع، ولتسقط مقولات الطائفية التي تربط الجنة والنار بطاعة مدعي العصمة والتفويض الإلهي بعد أن خبر المسحوقون واقع الفساد الذي طبع نمط حكم كلّ من البلدين، ولتسقط المشروع الأمريكي من خلال سقوط نموذجه العراقي، ومن خلال فشل فرض الأمر الواقع عبر توظيف الطائفية والتناقضات العرقية للهدم الذاتي.
وعود المستقبل:
إن ظاهرة حركة المقاومة السلمية المدنية الناشئة التي استفادت من الهرم السكاني الشاب لبلدانها وارتفاع نسب التمدرس وانكسار احتكار المعلومة عبر تنوع المنابر الإعلامية وانتشار الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي ساهم في بناء عقل نقدي مغامر، وهو عقل بناء يوفر مناخًا يستعيد فيه المجتمع استقلاله عن الدولة ليدفع في اتجاه إعادة الدولة إلى دورها الطبيعي كخادم للمجتمع لا كسيد، وقد تجسد ذلك خلال ثورات الربيع العربي وفي خروج الشّعب التركي للشارع لإعاقة الانقلابيين من استعمال الدولة لفرض ما يريدونه على الشعب.
إن حدود سايكس بيكو ليست مقدسة، وقد فتحت كل القوى العظمى الباب لإعادة صياغتها ولا بد من الاستفادة من التناقضات الدولية لإزالة الحواجز بين شعوب المنطقة التي تمثل جمهور الأمة في قلب حاضنتها الجغرافية (العرب والكرد والترك والبربر) في نضالها التاريخي المشترك ضد حملات السيطرة الخارجية المستمرة منذ حروب الفرنجة، كما تمثل تأويلا للنص الديني بشكل لا يوظف اسم الخالق للتأسيس لثيوقراطية فاسدة بل قراءة تحل الأمة محل السيادة والحاكم محل الخادم.
لا بد من البحث عن المشترك في القيم والمصالح مع كل النماذج الدّولية المؤثرة ومنع الصدام مع أي منها ما أمكن ذلك. وإذا حدثت خصومة في جزئية ما أن لا تحول إلى عقيدة سياسية ثم ايديولوجية بما يجعلها قابلة للاستغلال والتوظيف الذي لا يعبر عن حاجة دائمة وخاصة في علاقتنا بالصين حيث يعد استمرار حضورها في هذه المرحلة من التاريخ ضامنا للتنوع تستمر فيه كل الثقافات والأعراق في المساهمة في إثراء حياة الأنسان على هذا الكوكب، فالطبيعي هو التنوع والاختلاف والمشكل فقط في أسلوب إدارة هذا التنوع والاختلاف.
التنمية الاقتصادية والبحث العلمي والديمقراطية وإبداع آليات رقابية على الطبقة السياسية تحميها من فتنة السلطة وتبقى كلمة الفصل بيد المجتمع ليسحب تكليفه إذا ما خالف أحدهم الثوابت القيمية أو الوطنية أو الانسانية، هي أسس يمكن أن تعتمد لبناء مشروع حضاري منفتح يتعامل مع العالم بندية دون عقد نقص أو تفوق تساهم في تشكيل عالم متعدد ومتوازن ثقافيا وعرقيا وتوزع فيه الثروات بشكل عادل محليا ودوليا.
وكما شكل صعود الصين كسرا للأحادية العرقية في العالم فإن قيام تجربة ناجحة متوازنة وقوية في أوراسيا، أي الشرق الأوسط يكسر الأحادية الثقافية للعالم فرغم الإضافة التي شكلها بروز الصين إلا أن ذلك لم يكون مستندًا على أساس ثقافي مغاير للسائد خلال القرن الماضي، كل ذلك يفتح أفقا لعالم أكثر تنوعًا عرقيّا وثقافيّا، وفي أقطاب القوة فيه بما يصنع توازنا حقيقيا قائما على العدل والتقدم والتعايش في عالم ما بعد عالم سايكس بيكو.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس