ماجد عزام - العربي الجديد
وقّعت حكومة تركيا، نهاية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، مذكرتي تفاهم مع حكومة الوفاق الليبية، الشرعية المعترف بها دولياً، تتعلقان بالتعاون الأمني العسكري، وبتحديد مناطق النفوذ أو السيادة البحرية بين البلدين شرق البحر المتوسط. ليستا معاهدتين ولا اتفاقيتين، لكونها (أي التفاهمات) تستند أصلاً إلى اتفاقيات التعاون السابقة بين ليبيا وتركيا، كما لانتفاء حاجة الجانب الليبي لنيل مصادقة البرلمان عليها، وإنما يُكتفى بالمجلس السيادي الليبي، باعتباره مرجعية حكومة التوافق الشرعية.
تركز الاهتمام السياسي والإعلامي على مذكرة التفاهم الثانية، فيما الأولى لا تقلّ عنها أهمية، لكونها تتعلق بدعم تركيا الأمني والعسكري للحكومة الليبية الشرعية، وتزويدها بما تحتاجه من سلاح وعتاد، ومساعدتها لمنع سقوط طرابلس، أو البلد كله، بيد اللواء المتمرّد خليفة حفتر، وبالتالي إفشال الخيار العسكري الأحادي على حساب الخيار السياسي التوافقي، مع الانتباه إلى أن تركيا أنقذت حكومة الوفاق سابقاً (أقامت ما يشبه الجسر الجوّي والبحري لنقل الأسلحة والعتاد)، فأفشلت هجوم حفتر على العاصمة الصيف الماضي، ما دفعه إلى تغيير تكتيكاته، عبر الانتقال إلى حرب الشوارع والاستعانة بمرتزقة روس، مع عدم دعم إقليمي ودولي واضح له، بينما بقيت تركيا الداعم الحقيقي الجدّي الوحيد للحكومة الشرعية.
من هنا، تبدو تركيا جادّة جداً في حماية الحكومة الشرعية، وقد ترسل قواتٍ أو خبراء لمساعدتها، من دون أي قيود على إرسال الأسلحة والعتاد العسكري، وهي لن تسمح، كما قال الرئيس أردوغان، بتحول ليبيا إلى سورية جديدة، أو أن يصبح حفتر نسخة ليبية من بشار الأسد. والحكومة الليبية بحاجة ماسّة لهذا الدعم، وعلى الرغم من اعتراف المجتمع الدولي والأمم المتحدة بها، إلا أن معظم القوى الإقليمية والدولية لا تخفي دعمها لحفتر. ويمكن النظر فقط إلى معركة طرابلس لرؤية حجم هذا الدعم، حيث انخرطت فيها مباشرةً الإمارات ومصر وفرنسا، مع ضوء أخضر أميركي، وبعد فشل هجوم الصيف، استعان حفتر في الخريف بمرتزقة روس يعملون تحت إمرة الحكومة مباشرة، ويقودهم مسؤول مقرّب جدّاً من الرئيس بوتين.
وفي التداعيات أيضاً، سيزيد صمود الحكومة الشرعية، بفضل الدعم العسكري التركي، احتمالات الحل السياسي في ليبيا، الذي تتمتع فيه الحكومة الشرعية بأفضلية، لكونها معترفاً بها دولياً، وتتمتع بدعم شعبي ملحوظ. كذلك فإن هذا الحل يصادر من حفتر أهم أسلحته، أي القوة العسكرية، كما دعم الحلفاء غير المحدود له في هذا الجانب تحديداً. بينما يبقى الهدف النهائى الدائم عدم تحويل ليبيا إلى قاعدة لداعمي حفتر، أو كهف للديكتاتورية، كما قال حرفياً رئيس المجلس السيادى لحكومة الوفاق، فائز السراج.
على الرغم مما سبق كله، تركز الاهتمام الإقليمي الدولي والسياسي والإعلامي على التفاهم الثاني المتعلق بتحديد السيادة البحرية، حيث اعتُبرَت كأنها حدود مشتركة، وخط واصل بين ليبيا وتركيا، ما قطع التواصل بين الحلفاء الأربعة، مصر وإسرائيل من جهة، واليونان وقبرص (الرومية الجنوبية) من جهة أخرى، وأفشل كل خططها للهيمنة على شرق المتوسط وثرواته، وحرمان تركيا وشمال قبرص منها.
وسيساعد التفاهم تركيا على التنقيب عن النفط والغاز وحماية حقوقها، كما حقوق قبرص الشمالية التركية وسيسمح لها من جهة أخرى بفرض نفسها لاعباً مركزياً قوياً جدّاً في المنطقة. والأهم، ربما، أنه أعاد 40 ألف ميل بحري إلى ليبيا، بعدما سطت عليها اليونان، كذلك فإنه سيجعل تركيا ظهيراً بحرياً قوياً لليبيا، ويمنع تهريب النفط والسلاح منها وإليها. وربما لو اتُّبع المنطق نفسه في آلية التحديد، ستُعاد آلاف الأميال البحرية، والحجم نفسه، تقريباً لمصر أيضاً.
في المواقف والتداعيات الإقليمية الدولية، بدا موقف القاهرة متشنجاً حادّاً وغاضباً، لكون التفاهم أوقف خطط القاهرة ومشاريعها في ابتزاز تركيا أو إضعافها وعزلها، والاستئثار بثروات شرق المتوسط مع اليونان وإسرائيل.وذلك على الرغم من أن التفاهم البحري لا يشكل أي ضرر على مصالح مصر وحقوقها، ولا ينال منها، كما قال وزير الخارجية المصري سامح شكري نفسه. غير أن القاهرة فهمت أنه يمنع نجاح مشروع رجلها خليفة حفتر، أو يعرقله، لكون هذا التفاهم يعني تقوية حكومة الوفاق الشرعية التي ستتمتع بدعم عسكري، وبفوائد اقتصادية من التفاهم والخط البحري المباشر القصير والسريع مع تركيا.
لم تصدر إسرائيل موقفاً رسمياً، على الرغم من غضبها من التفاهم البحري، لأنه سيحرمها إقامة خط بحري مباشر لتصدير الغاز إلى أوروبا، ولكنها لا تستطيع خوض مواجهة مباشرة مفتوحة إعلامية وسياسية، لأنها لا تملك حدوداً بحرية مع تركيا أو ليبيا، وتستطيع التفاوض مع تركيا إذا أرادت تمديد خط بحري قصير، وأقل كلفة لنقل غازها إلى أوروبا، وهو ما أُبلغ مباشرةً إلى مفوض السفارة الإسرائيلية فى أنقرة، عندما استُدعي الأسبوع الماضى إلى جلسة توضيحية في وزارة الخارجية التركية.
وجاء الموقف الأقوى من اليونان، لكونها فعلاً المتضرّر الأساس من التفاهم، بعدما ظنت أن تفاهماتها مع مصر وإسرائيل تتيح فرض نفسها لاعباً مركزياً شرق المتوسط، لكن التفاهم التركي الليبي جاء ليعطي هذه المكانة لتركيا، علماً أن حدّة الموقف قد خفتت وهدأت نسبياً مع حديث يوناني عن حوار مباشر مع تركيا لحل الخلافات شرق المتوسط بشكل عام.
وقد تبدت المعطيات السابقة كلها فى التداعيات الدولية للتفاهم البحري، حيث هبّ الاتحاد الأوروبي، كعادته، ضد تركيا داعماً موقف اليونان وقبرص الجنوبية، ولكن من دون قدرة فعلية على التأثير بمجريات الأحداث، مع الانتباه إلى أن بروكسل كانت قد فرضت عقوبات رمزية وخجولة على أنقرة، على خلفية التنقيب عن الغاز والنفط شرق المتوسط.
وكان موقف روسيا داعماً ضمنياً لليونان وقبرص، من دون أن يصل إلى حد انتقاد موقف أنقرة التي لموسكو علاقات مصالح مركبة ومتداخلة معها. والولايات المتحدة صامتة، لكنها تبدو أقرب إلى اليونان، ومن دون قدرة على التدخل الفعلي. وقالت وزيرة الخارجية اليونانية السابقة، ثيودوار بايكويانيس، إن بلادها ستُترك وحيدة في حالة اندلاع أي نزاع عسكري مع تركيا. وهذا صحيح، وهو ما سيدفعها إلى الحوار مع أنقرة، بحثاً عن حلول سياسية دبلوماسية وقانونية للخلاف.
وعموماً، دخلت مذكرتا التفاهم حيّز التنفيذ مع مصادقة البرلمان التركي والمجلس السيادي الليبي عليهما، ويجري التحضير للخط البحري المباشر الذي سيكون بمثابة تكريس للأمر الواقع، وحماية للخط الحدودي بين البلدين، علماً أنها (التفاهمات) باتت مرتبطة مباشرة ببقاء الحكومة الشرعية في ليبيا. من هنا اشتداد الهجمة السياسية والعسكرية الخارجية لإسقاطها، وبالتأكيد ستبذل تركيا جهداً كبيراً لحمايتها ومساعدتها، خصوصاً أن هذه الحكومة تتمتع بتأييد شرائح شعبية ليبية واسعة، مستعدة للقتال دفاعاً عنها، كما لإسقاط مشروع حفتر الهادف إلى إعادة التاريخ إلى الوراء، عبر إعادة إنتاج نظام العقيد معمر القذافي الساقط في ليبيا.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس