نون بوست
يُعَد حي بَي أوغلو Beyoğlu اليوم أحد أعرق أحياء مدينة إسطنبول، والذي يعود إلى ما قبل الدولة العثمانية بقرون طويلة، وقد عُرفَ بأسماء مختلفة على مدار تاريخه، أبرزها غلطة Galata وپيرا Pera، وكان الحي معقلًا للتجار الإيطاليين تحديدًا والأوروبيين عمومًا قبل وصول العثمانيين إلى القسطنطينية، حتى إن الإمبراطور البيزنطي ميخائيل الثامن باليولوج قد أعطاه إلى جمهورية جِنوا الإيطالية بعد دعمها له أثناء الحملة الصليبية الرابعة في القرن الثالث عشر، لتصبح مركزًا للتجارة، ويحكمها "بودِستا" إيطالي (منصب أشبه بالعُمدة أو كبير الموظفين)، وليُبنى فيها بعد حوالي قرن برج غلطة الشهير بأيدي الطليان.
بعد فتح العثمانيين للمدينة، أُلغي منصب البودِستا في الحي، وإن كان السلطان محمد الفاتح قد سمح للإيطاليين بالبقاء، لتبدأ جمهورية البندقية أو فينيسيا Venice الإيطالية في تعزيز الروابط السياسية والتجارية مع الدولة العثمانية، والتي خلقت علاقة وطيدة ومميزة لم تنته حتى سقوط الخلافة، حيث كان للـ "بايلو" (السفير) الفينيسي دور هام ليلعبه من قصره في الحي في حياة المدينة، أبرزها ترشيح الفنان والمعماري المعروف ليوناردو دافينشي لتصميم جسر غلطة الذي رفضه السلطان لاحقًا، وقد أصبح قصر البايلو فيما بعد السفارة الإيطالية، ثم القنصلية الإيطالية بعد إعلان الجمهورية ونقل العاصمة إلى أنقرة عام 1923.
في القرن التاسع عشر، أصبح معظم سكان الحي من اليونانيين والأرمن، الذين تواجدوا في العاصمة بُحكم سيطرة الخلافة على اليونان وأرمنيا آنذاك، وكانت پـيرا هي معقل تجمّع الأجانب وغير المسلمين بطبيعة الحال، ولا يدلل على ذلك أكثر من امتلائها بكنائس مختلف المذاهب المسيحية حتى اليوم، وكذلك نمط الحياة الأوروبي والمفتوح فيها مقارنة بأحياء أخرى في إسطنبول، وكانت تلك الفترة هي التي شهدت بروز شارع استقلال باعتباره قلب الحي النابض.
يبدأ شارع استقلال، المعروف في العصر العثماني بالشارع الكبير Cadde-i Kebir قبل أن يُسمّى باستقلال بعد الجمهورية تخليدًا لحرب الاستقلال التركية، بنفق التونِل المعروف Tünel، والذي تصل فيه عربة مِترو قديمة بين الحي وحي قره كوي المُطِل على البوسفور، وهو ثاني أقدم خط سكة حديد في العالم بعد مترو لندن (مبني عام 1875)، وينتهي بميدان تقسيم في الشمال، حيث يقع تمثال الجمهورية.
تعود معظم المباني الموجودة اليوم في الشارع إلى أواخر القرن التاسع عشر، حيث بُنيت من جديد إثر الدمار الذي لحق بالمباني الخشبية القديمة عام 1870 جراء حريق كبير أدى لفقدان ثلاثة آلاف مبنى على الأقل، وقد بنيت معظمها منذ ذلك الحين على النسق الأوروبي، لتملأ المحال التجارية والمطاعم والمقاهي الطوابق الأرضية والأولى فيها، في حين استحوذت السفارات والقنصليات والمراكز الثقافية على الأدوار الأخيرة.
بتزايد تدفق الأوروبيين على إسطنبول في العقود الأخيرة من العصر العثماني، حيث ازداد اعتماد العثمانيين على جلبهم لتحديث المدينة، نشأت العديد من البيوت والمدارس الأجنبية في المنطقة، أشهرها بالطبع المدرسة الألمانية الموجودة قرب نفق التونل، والتي تأسست لأبناء الجالية الألمانية، وهي مدارس لاتزال موجودة حتى اليوم، وقد بدأ الأتراك في إرسال أبنائهم إليها منذ مطلع القرن العشرين مع اتجاههم نحو التعليم الأوروبي.
ممر الورود أو چيچك (تشيتشك) باساج المتفرّع عن شارع استقلال
الپاساج التركي هو ممر ضيق يمر عبر البنايات ويربط بين الشوارع وبعضها، وهو شبيه نوعًا ما بالممرات التي قد نجدها بين المباني في وسط البلد بالقاهرة، ولكنه على عكس نظيره المصري، يعج بالحياة حتى الآن، حيث يمتلئ بمحال الملابس والمشروبات والورود، بل وبالمطاعم والمقاهي والحانات، وكل تلك الممرات تعود للقرن التاسع عشر، حيث أخِذ تصميمها من نظيرتها الأوروبية، وهي لا تقل عن حوالي 14 ممرًا اليوم في شارع استقلال، أشهرها چيچك باساج Çiçek Pasajı، أو ممر الورود.
يقع ممر الورود بين جانبي ما كان مسرح ناعوم في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كان معروفًا آنذاك بالعروض الموجودة فيه حتى إن السلطانين عبد العزيز والعبد الحميد الثاني حضرا بعضًا من العروض فيه، حتى دمره حريق 1870 واشتراه المصرفي اليوناني خريستاكي زوغرافوس، وأعاد بنائه ليضم ممر الورود، وقد كان خريستاكي شديد الثراء آنذاك حتى إنه أقرض السلطان ذات مرة، وقد قام بتصميم المبنى الموجود حاليًا المعماري الإيطالي كلينثي زاننو، وضم وقت بنائه حوالي 25 محلًا للأطعمة والملابس والترزية، قبل أن تنتقل ملكيته للصدر الأعظم العثماني كوچوك سعيد باشا.
مع الوقت، أصبح ممر الورود واحدة من أكثر الأماكن ازدحامًا وضوضاءً في إسطنبول، حيث اجتذب جوه الليلي الباعة الجائلين والراقصات والشعراء والأجانب الذين سهروا فيه لساعات الصباح الأولى، وكما اجتذب بالطبع شاربي خمر الراقي Rakı التركي المفضّل لدى كثيرين حتى اليوم.
على الناحية الأخرى، يقع ممر آخر، هو ممر سورية، بالقرب من نهاية الشارع ناحية نفق التونل، والذي كان قد صممه المعماري اليوناني ديميتري فاسيليادِس لصالح مالكه السوري حسن حلبوني في مطلع القرن العشرين، وقد اشتهر لاحتوائه على مقر الجريدة اليونانية أبويِفماتيني التي تأسست عام 1925، وكانت على حافة الإفلاس بسبب الأزمة المالية اليونانية حين أعلنت نيتها التوقّف عام 2011 جراء تراجع الإعلانات اليونانية فيها، قبل أن تمدها وكالة إعلانات الصحافة التركية بالدعم لتستمر، هذا ويبلغ عدد قرائها حوالي 600.
مطبعة جريدة أبويِفماتيني اليونانية الصغيرة، واحدة من بقايا الثقافة اليونانية في القسطنطينية
بطبيعة الحال، يُعَد هذا الرقم ضئيلًا للغاية في مدينة كانت تعج يومًا ما بآلاف اليونانيين، ولكنها أصبحت اليوم أكثر تجانسًا بعد سياسات التتريك التي اتُبِعَت بعد إعلان الجمهورية، والتي تم على إثرها استبدال اليونانيين في تركيا بالأتراك في اليونان، ومحاولات مسح أي ملامح للتعددية التي اتسمت بها يومًا ما، بما في ذلك أسماء الأحياء، حيث أصبحت پـيرا اليوم بَي أوغلو، وهي إشارة إلى البايلو الإيطالي الذي سكنها يومًا ما، أو كما يقول آخرون، إشارة إلى أحد أبناء البايلو أندريه جريتي، حيث تعنى الكلمة حرفيًا بالتركية ابن البيه.
***
بطبيعة الحال، وبعد رحيل أغلب الجاليات الأجنبية، فقد الحي بريقه وثقافته، وأصبح بالكاد معقلًا للأتراك ذوي الثقافة الأوروبية، قبل أن يتجه الكثير منهم نحو أحياء أكثر رقيًا وثراءً بمرور الوقت، لاسيما مع تنامى العنف بين اليمين واليسار التركيَّين في سبعينيات القرن الماضي، وصعود أعداد المهاجرين من الريف إلى إسطنبول، والذين سكنوا مناطق كثيرة في الحي، حتى قامت البلدية وسلطة الحي بعمليات تجديد وإحياء لشارع استقلال والمنطقة المحيطة ببرج غلطة ليصبح اليوم مركزًا للسياح، ويعود لموقعه في القلب من ثقافة إسطنبول وحياتها اليومية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!